الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله
اختلف الفقهاء في حكم الصيد بالبندقية؛ فمنهم من اعتبرها كالمعراض: وهي آلة تجمع خشباً وحديداً، فإن أصاب الصيد بحده أكل، وإن أصاب بعرضه فهو محرم كالموقوذة -وهي التي ماتت بضرب بعصاً أو حجر، أو نحوهما من مثقل-؛ لأنها تدق وتكسر وتقتل المصيد بثقلها، فإن أدرك المصيد حياً فلا بدَّ من ذبحه والتسمية عليه؛ ليحلَّ أكله، وقد ذهب إلى ذلك الشافعية والحنفية.
فالصيد المقتول بما لا حدَّ له لا يحلُّ أكله وإن جرحه، يقول الإمام النووي رحمه الله في [المجموع شرح المهذب 9/ 110]: "وإن رماه بمحدد كالسيف والنشاب والمروة المحددة وأصابه بحده فقتله حلَّ، وإن رمى بما لا حدَّ له كالبندق- أي: كرات من الطين بحجم حبة البندق- والدبوس، أو بما له حدّ فأصابه بغير حده فقتله لم يحل".
وذلك لأن من شروط الآلة في الصيد عند الشافعية أن تكون بكل محدد يجرح، ولا تجوز بالمثقل؛ لأنه لا يقتل بحده، وكذلك ما صنع من الحديد ويرمى بالنار؛ لا يحل، جاء في [فتح المعين بشرح قرة العين بمهمات الدين/ ص306]: "ويحرم قطعا رمي الصيد بالبندق المعتاد الآن، وهو ما يصنع بالحديد ويرمى بالنار؛ لأنه محرق مذفف سريعا غالبا".
وما أجازه الشافعية في هذه المسألة من جواز الصيد بالبندق والرصاص، إذا كان الصيد لا يموت فيه غالباً، كالإوز، فإن مات كالعصافير فيحرم، فلو أصابته البندقية فذبحته بقوتها، أو قطعت رقبته حرم.
جاء في [حاشيتا قليوبي وعميرة 4/ 245]: "ويجوز الاصطياد بالبندق في صيد لا يموت به، وإلا فيحرم كالعصافير، والبندق شامل لما كان بواسطة نار أو لا وهو مثال، فكل مثقل كذلك".
واشترط فقهاء الحنفية لجواز الصيد بالبندق أن يحصل به انهيار الدم من المصيد، جاء في [حاشية ابن عابدين على الدر المختار 6/ 471]: "قال قاضي خان: لا يحلُّ صيد البندقة والحجر والمعراض والعصا، وما أشبه ذلك وإن جرح؛ لأنه لا يخرق، إلا أن يكون شيء من ذلك قد حدده وطوله كالسهم وأمكن أن يرمي به؛ فإن كان كذلك وخرقه بحده حلَّ أكله، فأما الجرح الذي يدق في الباطن ولا يخرق في الظاهر لا يحل؛ لأنه لا يحصل به إنهار الدم، ومثقل الحديد وغير الحديد سواء، إن خزق حل وإلا فلا".
ومن الفقهاء من اعتبر بأن الرصاصة آلة حادة فهي تخرق الجسد وتنزل الدم، فتقتل بحدها لا بثقلها؛ فيحل الصيد بها وهو قول السادة المالكية، جاء في [الشرح الكبيرٍ للشيخ الدردير 2/ 103]: "الحاصل أن الصيد ببندق الرصاص لم يوجد فيه نص للمتقدمين؛ لحدوث الرمي به بحدوث البارود في وسط المائة الثامنة، واختلف فيه المتأخرون؛ فمنهم من قال بالمنع قياساً على بندق الطين، ومنهم من قال بالجواز كأبي عبد الله القوري، وابن غازي، والشيخ المنجور، وسيدي عبد الرحمن الفاسي، والشيخ عبد القادر الفاسي، لما فيه من الإنهار والإجهاز بسرعة الذي شرعت الذكاة لأجله، وقياسه على بندق الطين فاسد لوجود الفارق، وهو وجود الخرق والنفوذ في الرصاص تحقيقا، وعدم ذلك في بندق الطين، وإنما شأنه الرض والكسر، وما كان هذا شأنه لا يستعمل؛ لأنه من الوقذ المحرم بنص القرآن".
وعليه؛ فإن تحقق شرط الصيد في الرصاص كونه حاداً وجارحاً، ويؤثر في اللحم بالقطع أو الخزق؛ جاز الصيد به وحلَّ أكله، وإلا لا يحلُّ بغير الذبح، ومن أخذ برأي المالكية في هذا فلا حرج. والله تعالى أعلم.