الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله
الشهادة مشتقة من الشهود أي الحضور، وقد أرشد الله تعالى إلى الإشهاد على العقود المالية والتجارية من باب تحصين الحقّ وسهولة تحصيله، فقال سبحانه: {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} [البقرة: 282]، كما أرشد إلى الإشهاد على المداينة التي هي فرع عن الأعمال التجارية، فقال سبحانه: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى} [البقرة: 282]، فالأمر في الآيتين للندب لا للوجوب.
وما دام الغرض من الشهادة حفظ الحقوق، فليس لوصف الذكورة والأنوثة بحد ذاتها مدخل فيه، ولكن مبناها على أمرين رئيسين؛ أولاهما: شخص الشاهد نفسه وصفاته، وقد بين الإمام الرازي ذلك عند تفسيره للآية السابقة عند قول الله تعالى: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ}، فقال: "هو كقوله تعالى في الطلاق: {وأشهدوا ذوي عدل منكم} [الطلاق: 2]، واعلم أن هذه الآية تدل على أنه ليس كلُّ أحد صالحاً للشهادة، والفقهاء قالوا: شرائط قبول الشهادة عشرة: أن يكون حراً، بالغاً، مسلماً، عدلاً، عالماً بما شهد به، ولم يجرّ بتلك الشهادة منفعة إلى نفسه، ولا يدفع بها مضرة عن نفسه، ولا يكون معروفاً بكثرة الغلط، ولا بترك المروءة، ولا يكون بينه وبين من يشهد عليه عداوة" [التفسير الكبير 7/ 95]، وظاهر من الشروط السابقة في شخص الشاهد أن الذكورة والأنوثة ليست شرطاً في قبول الشهادة.
ثانيهما: صلة الشاهد بالواقعة بحيث تجعله تلك الصلة قريباً حاضراً عالماً بما يشهد به؛ لشدة قربه منها، ليكون مؤهلاً لأداء الشهادة، وهنا يظهر التمايز في شهادة الذكر والأنثى، لكن لا للذكورة والأنوثة نفسها، بل لمدى القرب من الوقائع أو البعد عنها عادةً، فعلى سبيل المثال:
الوقائع الخاصة بالنساء كالولادة، والبكارة، والثيوبة، وعيوب النساء يكتفى فيها بشهادة النساء وحدهن، قال الإمام الشافعي رحمه الله: "الولادة وعيوب النساء مما لم أعلم مخالفاً لقيته في أن شهادة النساء فيه جائزة لا رجل معهن" [الأم 7/ 92].
وعلل ذلك شيخ الإسلام الإمام النووي رحمه الله بقوله: "ما لا يطلع عليه الرجال، وتختص النساء بمعرفته غالباً؛ فيقبل فيه شهادتهن منفردات، وذلك كالولادة، والبكارة، والثيابة، والرتق، والقرن، والحيض، والرضاع" [روضة الطالبين وعمدة المفتين 11/ 253]، فالعبرة بالاطلاع والاختصاص، أي القرب من الواقعة، وليس الجنس بحدّ ذاته.
وفي تلك الشؤون الخاصة بالمرأة، والتي لا يطلع عليها الرجال عادةً، بل لا يطلع عليها إلا القليل من النساء، اكتفى الحنفية بشهادة امرأة واحدة؛ وذلك لشدة خصوصية تلك المسائل، قال الإمام السرخسي الحنفي رحمه الله: "ثم يثبت ذلك بشهادة امرأة واحدة إذا كانت حرة مسلمة، عدلاً عندنا، والمثنى والثلاث أحوط" [المبسوط 16/ 143].
فإن نظرنا للمعاملات المالية والتجارية وما يتبعها من معاملات؛ كالإقالة، والرهن، والاستدانة، وغيرها من العقود نجد أنّ غالب من يشهدها من الرجال؛ لأن أغلب من يمارس تلك الأعمال التجارية من الرجال أصلا، فهي محطّ اهتمامهم وتركيزهم، لذلك كانت شهادة الرجال مقدمة على شهادة النساء، وفي المسائل التي تختص بشؤون المرأة كانت شهادة النساء مقدمة على شهادة الرجال، فليس السبب في ذلك التمييز بناء على الجنس، وليس الانحياز لجنس دون آخر، بل لأن الرجال في هذه الوقائع أشدّ التصاقاً وقربًا، فتكون دائرة التركيز في هذه المسائل عند الرجال أشدّ، بخلافها في المسائل الأخرى التي لا يطلع عليها الرجال عادةً، حيث تكون دائرة تركيز النساء أشدّ، وهذا لأنّ التشريع الإسلامي يتصف بالواقعية في نظرته للأشياء، وفي هذا تسهيل على الناس، وتحقيق للعدالة بينهم.
وعليه؛ فالشهادة في الأمور المالية تثبت بشهادة رجلين أو رجل وامرأتين، ولا تثبت بنسوة منفردات، كالشهادة على البيع والإقالة، والشهادة فيما لا يطلع عليه الرجال غالباً فيثبت بشهادة النساء منفردات كما في الولادة والثيوبة، وفي هذا حفظ للحقوق وتكريم للرجل والمرأة. والله تعالى أعلم.