الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله
الأصل في هبة الوالد لأولاده في حال حياته المساواة بينهم وعدم المفاضلة دون مبرر شرعي، وهذا أدعى لدوام المحبة واللحمة بينهم وبين الأب، وبين الأولاد أنفسهم، وأبعد للأحقاد والكره الذي يولده التمييز، وأسلم للأب عند الله عزّ وجل، لا سيما أن هناك بعض المذاهب الفقهية التي أوجبت التسوية بين الأولاد في العطايا.
فقد ورد النهي الشرعي عن المحاباة والتمييز بين الأولاد في العطية دون مبرر شرعي، لما روى النعمان بن بشير رضي الله عنه أَنَّ أُمَّهُ بِنْتَ رَوَاحَةَ سَأَلَتْ أَبَاهُ بَعْضَ الْمَوْهِبَةِ مِنْ مَالِهِ لِابْنِهَا، فَالْتَوَى بِهَا سَنَةً، ثُمَّ بَدَا لَهُ، فَقَالَتْ: لَا أَرْضَى حَتَّى تُشْهِدَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَا وَهَبْتَ لِابْنِي، فَأَخَذَ أَبِي بِيَدِي -وَأَنَا يَوْمَئِذٍ غُلَامٌ- فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّ أُمَّ هَذَا بِنْتَ رَوَاحَةَ أَعْجَبَهَا أَنْ أُشْهِدَكَ عَلَى الَّذِي وَهَبْتُ لِابْنِهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (يَا بَشِيرُ! أَلَكَ وَلَدٌ سِوَى هَذَا؟ قَالَ: نَعَمْ. فَقَالَ: أَكُلَّهُمْ وَهَبْتَ لَهُ مِثْلَ هَذَا؟ قَالَ: لا قَالَ: فَلَا تُشْهِدْنِي إِذًا فَإِنِّي لا أَشْهَدُ عَلَى جَوْرٍ) رواه البخاري ومسلم، وفي الحديث المتفق عليه: (فاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْدِلُوا بَيْنَ أَوْلاَدِكُمْ)، وقد اختلف العلماء في صفة النهي الوارد في الأحاديث السابقة؛ فحمله بعضهم على الكراهة، وحمله البعض الآخر على الحرمة.
ومن الشروط الشرعية للهبة للأولاد في حال توزيعها في الحياة: أن لا يقصد الوالد حرمان أحد الورثة من الميراث؛ وذلك لقوله صلى الله عليه وسلم: (فَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْدِلُوا بَيْنَ أَوْلاَدِكُمْ)، فقَصْدُ حرمان الورثة من نصيبهم الشرعي فيه مخالفة لإرادة الشارع من تفصيل الميراث، واستحقاق كل وارث نصيبه الذي أقره له، بل إن بعض العلماء جعل لولي الأمر إن شعر أن في الهبة تهرباً وحرماناً للورثة من نصيبهم الشرعي أن يرد ذلك، جاء في [شرح صحيح البخاري 7/ 104] لابن بطال رحمه الله تعالى: "قال المهلب: وفيه أن للإمام إذا عرف من الواهب هروبًا من بعض الورثة أن يرد ذلك؛ لأن قوله: (فأمرتني أن أشهدك)، وأنها لم ترض حتى يشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم دليل على هروبه بماله عن سائر بنيه؛ لأن في بعض طرق الحديث: (لا أشهد على جور)، وكان معروفًا بالميل إلى تلك المرأة".
أما إن كانت الزيادة في العطية لسبب معين؛ كالتميّز بفضيلة من الفضائل أو حالٍ من الأحوال، كأن يكون أحد الأبناء فقيرًا جدًا، أو مريضًا، أو يحتاج إلى مال للتعليم، ونحو ذلك من الأسباب فعندئذٍ تجوز المفاضلة ولا بأس بها.
واستثنى العلماء الولد العاقّ من العدل بين الأبناء في الأعطيات، لما روى الإمام مالك عن عائشةَ رضي الله تعالى عنها زَوجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم "أن أَبا بَكرٍ الصِّدِّيقَ كانَ نَحَلَها جَادَّ عِشْرِينَ وَسْقًا مِن مَالِهِ بِالغَابَةِ" [الموطأ 4/ 1089]، قال الإمام ابن حجر رحمه الله: "ولم يكره التفضيل كما لو أحرم فاسقاً لئلا يصرفه في معصية، أو عاقاً، أو زاد أو آثر الأحوج، أو المتميز بنحو فضل كما فعله الصديق مع عائشة رضي الله تعالى عنهما" [تحفة المحتاج 6/ 308].
وعليه؛ فأعطية الوالد لأولاده في حال الحياة يكره فيها المفاضلة بينهم دون مبرر شرعي، أو أن يقصد حرمان بعض الورثة من الميراث، فإذا كان الابن المعاق لا يستطيع القيام بأمر نفسه، وهو بحاجة إلى المساعدة للحصول على العناية والعلاج دون باقي إخوته، فهذا يجيز للوالد تخصيص ابنه المعاق بالمصاريف أو بتسجيل جزء من أملاكه في حياته، ولا إثم عليه إن شاء الله تعالى، وننصحه ببيان الحكم الشرعي لباقي الأبناء والبنات، كي لا يبقى في نفوسهم شيء بسبب ما سيقوم به. والله تعالى أعلم.