الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله
للأشهر الحرم مكانة عظيمة عند الله تعالى، وهي ذو القعدة، وذو الحجة، ومحرم، ورجب، قال الله تعالى: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} [التوبة: 36].
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الزَّمَانُ قَدْ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ، السَّنَةُ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا، مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ، ثَلاَثَةٌ مُتَوَالِيَاتٌ: ذُو القَعْدَةِ وَذُو الحِجَّةِ وَالمُحَرَّمُ، وَرَجَبُ مُضَرَ، الَّذِي بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ) رواه البخاري.
وأمّا مسألة مضاعفة الأجر والعقاب في الأشهر الحرم وفي مكة المكرمة وفي المدينة المنورة فقد تكلم فيها جماعة من العلماء، فمنهم من ذهب إلى مضاعفة الإثم في الزمان والمكان الفاضلين، كالأشهر الحرم وفي ومكة المكرمة والمدينة المنورة، كابن كثير والقرطبي والبهوتي، وقد نُقل ذلك عن ابن عباس رضي الله عنهما.
جاء في [كشاف القناع 2/ 330] من كتب الحنابلة: "ويجب اجتناب كذب وغيبة ونميمة وشتم أي: سبّ وفحش، قال ابن الأثير: هو كلّ ما اشتدّ قبحه من الذنوب والمعاصي ونحوه كلَّ وقت؛ لعموم الأدلة، ووجوب اجتناب ذلك في رمضان ومكان فاضل آكد؛ لحديث أبي هريرة مرفوعاً: «من لم يَدَعْ قولَ الزّور والعمل به فليس لله حاجة في أنْ يدع طعامه وشرابه» رواه البخاري، ومعناه: الزَّجر والتحذير؛ ولأنّ الحسنات تتضاعف بالمكان والزمان الفاضلين، وكذا السيئات".
يقول القرطبيُّ رحمه الله تعالى: "(فلا تظلموا فيهنّ أنفسكم) بارتكاب الذنوب؛ لأنّ الله سبحانه إذا عظم شيئاً من جهة واحدة صارت له حرمة واحدة، وإذا عظمه من جهتين أو جهات صارت حرمته متعددة، فيضاعف فيه العقاب بالعمل السيئ، كما يضاعف الثواب بالعمل الصالح، فإن من أطاع الله في الشهر الحرام في البلد الحرام ليس ثوابه ثواب من أطاعه في الشهر الحلال في البلد الحرام، ومن أطاعه في الشهر الحلال في البلد الحرام ليس ثوابه ثواب من أطاعه في شهر حلال في بلد حلال، وقد ذكر الله تعالى ذلك بقوله سبحانه: {يا نساء النبي من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين} [الأحزاب: 30]" [تفسير القرطبي 8/ 134].
وجاء في [تفسير ابن كثير 4/ 148]: "قال تعالى: {فلا تظلموا فيهنّ أنفسكم} أي: في هذه الأشهر المحرمة؛ لأنه آكد وأبلغ في الإثم من غيرها، كما أنّ المعاصي في البلد الحرام تضاعف، لقوله تعالى: {ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم} [الحج: 25]، وكذلك الشهر الحرام تغلظ فيه الآثام؛ ولهذا تغلظ فيه الدّية في مذهب الشافعي، وطائفة كثيرة من العلماء، وكذا في حقّ من قتل في الحرم أو قتل ذا محرم...، وقال قتادة في قوله: {فلا تظلموا فيهن أنفسكم} إنّ الظلم في الأشهر الحرم أعظم خطيئة ووزراً، من الظلم فيما سواها، وإن كان الظلم على كل حال عظيماً، ولكن الله يعظم من أمره ما يشاء".
وذهب بعض العلماء كابن رجب الحنبلي إلى عدم المضاعفة، ولكن الإثم فيها أعظم من الإثم من غيرها من الأزمنة والأمكنة.
جاء في [جامع العلوم والحكم 2/ 317] لابن رجب الحنبلي رحمه الله تعالى: "تكتب السيئة بمثلها من غير مضاعفة، كما قال تعالى: {ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها وهم لا يظلمون} [الأنعام: 160] وقوله: {كتبت له سيئة واحدة} إشارة إلى أنها غير مضاعفة، لكن السيئة تعظم أحياناً بشرف الزمان أو المكان، كما قال تعالى: {إنّ عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض منها أربعة حرم ذلك الدين القيم فلا تظلموا فيهن أنفسكم} [التوبة: 36]، قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في هذه الآية: {فلا تظلموا فيهن أنفسكم} [التوبة: 36]: في كلهن، ثم اختصّ من ذلك أربعة أشهر، فجعلهن حرماً، وعظم حرماتهن، وجعل الذنب فيهن أعظم، والعمل الصالح والأجر أعظم، وقال قتادة في هذه الآية: اعلموا أنّ الظلم في الأشهر الحرم أعظم خطيئة ووزراً فيما سوى ذلك، وإن كان الظلم في كل حال غير طائل، ولكن الله تعالى يعظم من أمره ما يشاء تعالى ربنا".
وعليه؛ يجب على المسلم أن يجتنب المعاصي في كلّ وقت، حتى لو لم تضاعف، والاجتهاد بفعل الطاعات أيضاً، فقد وعد الله تعالى بمضاعفتها للعبد إلى أضعاف كثيرة. والله تعالى أعلم.