الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله
ورد في الحديث الصحيح عن المسور بن مخرمة رضي الله عنه أِنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ خَطَبَ ابْنَةَ أَبِي جَهْلٍ عَلَى فَاطِمَةَ عَلَيْهَا السَّلاَمُ، فَسَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ النَّاسَ فِي ذَلِكَ عَلَى مِنْبَرِهِ هَذَا وَأَنَا يَوْمَئِذٍ مُحْتَلِمٌ، فَقَالَ: (إِنَّ فَاطِمَةَ مِنِّي، وَأَنَا أَتَخَوَّفُ أَنْ تُفْتَنَ فِي دِينِهَا)، ثُمَّ ذَكَرَ صِهْرًا لَهُ مِنْ بَنِي عَبْدِ شَمْسٍ، فَأَثْنَى عَلَيْهِ فِي مُصَاهَرَتِهِ إِيَّاهُ، قَالَ: (حَدَّثَنِي فَصَدَقَنِي وَوَعَدَنِي فَوَفَى لِي، وَإِنِّي لَسْتُ أُحَرِّمُ حَلاَلًا، وَلاَ أُحِلُّ حَرَامًا، وَلَكِنْ وَاللَّهِ لاَ تَجْتَمِعُ بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَبِنْتُ عَدُوِّ اللَّهِ أَبَدًا) رواه البخاري.
ومن العقائد الإسلاميّـة المقرّرة عند أهل السنة والجماعة أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم معصوم عن مخالفة التشريع، فلا يقع منه عليه الصلاة والسلام ما يخالف الأحكام الشرعية، بل هو المؤتمن على تبليغها وأدائها، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} [المائدة: 67].
وعدم موافقة سيدنا النبيّ صلى الله عليه وسلم على زواج عليّ رضي الله عنه ليس فيها شيء من الإخلال بالعدل أو الالتزام بالأحكام الشرعية، فهو لا يحرّم حلالاً، كما نصّ على ذلك في الرواية، وحاشاه من ذلك عليه الصلاة والسلام.
وقد ذكر العلماء في تفسير هذه الواقعة أقوالاً، منها إشارة الرواية إلى أنّ عدم تزوج عليّ رضي الله عنه على فاطمة رضي الله عنها كان من باب المشروط في حقّ عليّ رضي الله عنه، فلزمه الوفاء بهذا الشرط، واستدلّوا لذلك بإشارة النبي صلى الله عليه وسلم إلى وفاء بعض أصهاره وصدقهم في الحديث.
ومنها: ما جاء في [شرح صحيح مسلم] للإمام النوويّ رحمه الله تعالى (16/ 3): "وقد أعلم صلى الله عليه وسلم بإباحة نكاح بنت أبي جهل لعليّ، بقوله صلى الله عليه وسلم: لست أحرم حلالاً، ولكن نهى عن الجمع بينهما لعلتين منصوصتين: إحداهما: أن ذلك يؤدي إلى أذى فاطمة، والثانية: خوفاً من فتنتها بسبب الغيرة".
ومنها أنّ النبي صلى الله عليه وسلم أشفق على عليّ رضي الله عنه أن يلحقه إثم بسبب ما قد يحصل للنبي صلى الله عليه وسلم من إيذاء بسبب هذا النكاح، فقد جاء في [فتح الباري] للإمام ابن حجر العسقلاني (9/ 328): "قال ابن التّين: أصحّ ما تُحمل عليه هذه القصة: أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم حرَّم على عليّ أن يجمع بين ابنته وبين ابنة أبي جهل؛ لأنه عّلل بأن ذلك يؤذيه، وأذيته حرام بالاتفاق، فهي له حلال لو لم تكن عنده فاطمة، وأما الجمع بينهما الذي يستلزم تأذي النبي صلى الله عليه وسلم لتأذي فاطمة به فلا، وزعم غيره أن السياق يشعر بأن ذلك مباحٌ لعلي، لكنه منعه النبي صلى الله عليه وسلم رعاية لخاطر فاطمة، وقَبِلَ هو ذلك امتثالاً لأمر النبي صلى الله عليه وسلم. والذي يظهر لي أنه لا يبعد أن يُعدَّ في خصائص النبيّ صلى الله عليه وسلم أن لا يُتزوّج على بناته، ويحتمل أن يكون ذلك خاصاً بفاطمة رضي الله عنها".
وجاء في [المواهب اللدنية بالمنح المحمدية 2/ 365]: "وقد استشكل اختصاص فاطمة بذلك...، وكان صلى الله عليه وسلم يستكثر من الزوجات، وتوجد منهن الغيرة، ومع ذلك ما راعى صلى الله عليه وسلم ذلك في حقهن، كما راعاه في حق فاطمة؟ وأجيب: بأن فاطمة كانت إذ ذاك فاقدة من تركن إليه ممن يؤنسها ويزيل وحشتها من أم أو أخت، بخلاف أمهات المؤمنين، فإنّ كل واحدة منهن كانت ترجع إلى من يحصل لها معه ذلك، وزيادة عليه وهو زوجهنّ صلى الله عليه وسلم لما كان عنده من الملاطفة وتطييب القلوب وجبر الخواطر، بحيث إن كل واحدة منهن ترضى منه لحسن خلقه وجميل خلقه جميع ما يصدر منه، بحيث لو وجد ما يخشى وجوده من الغيرة لزال عن قرب".
وعليه؛ فالذي ينبغي على المسلم في هذه المسائل النظرية أن يتمسّك بالمقطوع به، وهو عصمة النبيّ صلى الله عليه وسلم، وحكمته الواسعة في التصرفات الدنيوية، والجزم بأنّ أيّ شخص يحبّ النبيّ صلى الله عليه وسلم لا يسعه إلا أن يحبّ موافقته فيما يحبه ويختاره ويرضاه، وذلك من علامات الإيمان، لقول الله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الحشر: 7]. والله تعالى أعلم.