الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله
إنّ استيفاء المعقود عليه في هذا الاتفاق ممكن وهو توصيل الطلبة إلى مدارسهم، ولذلك يجوز لصاحب الباص أن يستوفي الأجرة عن المدة كاملة إذا التزم بأداء ما عليه، ولا يكون تغيب الطالب لسبب ما عذراً تنفسخ به الإجارة أو يسقط به جزء من الأجرة، إلا إذا تخلّف صاحب الباص عن أداء تلك المنفعة معتذراً بسبب ما، ولا يعدّ هذا العذر مقبولاً؛ لأنّ الذي يعلن الدوام أو عدمه هو الجهة المختصّة بذلك فقط، فيسقط حقّه في المطالبة بجزء من الأجرة لأنه تخلف عن أداء المعقود عليه.
وذلك لأنّ قيام سائق الباص بتوصيل الطلاب إلى مدارسهم يعدّ من باب إجارة الذمة، وفي هذا النوع من الإجارة يلتزم الأجير بأداء الخدمة التي حصل عليها الاتفاق من غير اشتراط نوع المركبة أو اشتراط سائق معين مثلاً، بل يكفي أنْ يوصل الطلبة إلى المدرسة، فالمعقود عليه في هذه الإجارة هي توصيل الطلاب.
ولا حرج على الأجير في إجارة الذمة -وهو صاحب الباص هنا- أن يقدم خدمته لأكثر من مستفيد واحد في الوقت نفسه، ويسميه الفقهاء أيضاً باسم "الأجير المشترك"، وقد فرّق الفقهاء بين الأجير الخاص والأجير المشترك من حيث العمل واستحقاق الأجرة، فالأجير الخاص محبوس لصالح المستأجر لا يجوز له العمل أثناء مدة الإجارة في أي عمل آخر، فلا بدّ أن يكون مختصّاً بالمستأجر، وأمّا الأجير المشترك فلا يختصّ بشخص معين، ويعمل لعدة أشخاص في نفس الوقت، ولا يجب عليه في العقد أن يحبس وقته للمستأجر، قال الإمام النووي الشافعي رحمه الله تعالى: "فهو، إمّا أجير مشترك، وإما منفرد، والمشترك: هو الذي يتقبل العمل في ذمته، كما هو عادة الخياطين والصواغين، فإذا التزم لواحد، أمكنه أن يلتزم لغيره مثل ذلك العمل، فكأنه مشترك بين الناس. والمنفرد: هو الذي أجّر نفسه مدة مقدرة لعمل، فلا يمكنه تقبل مثل ذلك العمل لغيره في تلك المدة" [روضة الطالبين 5/ 228].
ولما كانت الإجارة عقداً على المنفعة، وهي توصيل الطلاب، فإنها لا تبطل بسبب عدم استيفاء المنفعة فعلياً لسبب غير تعطل المنفعة نفسها، كما ذهب إليه فقهاء الشافعية، جاء في [شرح المحلي على منهاج الطالبين] من كتب الشافعية: "لا تنفسخ الإجارة ولا تفسخ (بعذر) في غير المعقود عليه للمستأجر أو المؤجر الأول (كتعذر وَقود حمام) على مستأجره، (وسفر) عَرَض لمستأجر دار مثلاً"، وقال قليوبي معلقاً على ذلك: "وكذا تعذّر من يدخله لنحو خراب ما حوله أو منع حاكم منه" [حاشيتا قليوبي وعميرة 3/ 84]، ولا فرق في ذلك بين إجارة العين وإجارة الذمة، قال الإمام النووي رحمه الله تعالى: "لا تنفسخ الإجارة بالأعذار، سواء كانت إجارة عين أو ذمة، وذلك كما إذا استأجر دابة للسفر عليها فمرض، أو حانوتاً لحرفة فندم، أو هلكت آلات تلك الحرفة، أو حماماً فتعذر الوقود" [روضة الطالبين 5/ 239]. والله تعالى أعلم.