الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله
أباح الإسلام زواج المسلم من الكتابية؛ لقول الله تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} المائدة/5، أما زواج المسلمة من غير المسلم فحرمه الشرع؛ للأدلة الآتية:
الدليل الأول: قول الله تعالى: {وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آَيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} البقرة/221.
ووجه الاستدلال هو النهي الصريح الذي يفيد التحريم، قال القرطبي رحمه الله: ""قوله تعالى: {ولا تنكحوا}: "أي لا تزوجوا المسلمة من المشرك، وأجمعت الأمة على أن المشرك لا يطأ المؤمنة بوجه؛ لما في ذلك من الغضاضة على الإسلام" [تفسير القرطبي3/ 72]، وقال أبو حيان رحمه الله: "وأجمعت الأمة على أن المشرك لا يطأ المؤمنة بوجه ما، والنهي هنا للتحريم، وقد استدلّ بهذا الخطاب على الولاية في النكاح وأن ذلك نص فيها" [البحر المحيط لأبي حيان2/ 419].
الدليل الثاني: قول الله تعالى: {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} الممتحنة/10، قال الرازي رحمه الله في تفسيره: "ما الفائدة في قوله: {ولا هم يحلّون لهن}، ويمكن أن يكون في أحد الجانبين دون الآخر؟
نقول: هذا باعتبار الإيمان من جانبهن ومن جانبهم؛ إذ الإيمان من الجانبين شرط للحل، ولأن الذكر من الجانبين مؤكد لارتفاع الحل، وفيه من الإفادة ما لا يكون في غيره، فإن قيل: هبْ أنه كذلك، لكن يكفي قوله: فلا ترجعوهن إلى الكفار؛ لأنه لا يحلّ أحدهما للآخر فلا حاجة إلى الزيادة عليه، والمقصود هذا لا غير، نقول: التلفظ بهذا اللفظ لا يفيد ارتفاع الحل من الجانبين، بخلاف التلفظ بذلك اللفظ، وهذا ظاهر" [تفسير الرازي29/ 522].
الدليل الثالث من الحديث النبوي الشريف: ما رواه البخاري من طريق عروة بن الزبير، قالَ: "لَمَّا كَاتَبَ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو يَوْمَئِذٍ كَانَ فِيمَا اشْتَرَطَ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ لا يَأْتِيكَ مِنَّا أَحَدٌ وَإِنْ كَانَ عَلَى دِينِكَ إِلَّا رَدَدْتَهُ إِلَيْنَا، وَخَلَّيْتَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ، فَكَرِهَ المُؤْمِنُونَ ذَلِكَ وَامْتَعَضُوا مِنْهُ، وَأَبَى سُهَيْلٌ إِلا ذَلِكَ، فَكَاتَبَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى ذَلِكَ، فَرَدَّ يَوْمَئِذٍ أَبَا جَنْدَلٍ إِلَى أَبِيهِ سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو، وَلَمْ يَأْتِهِ أَحَدٌ مِنَ الرِّجَالِ إِلا رَدَّهُ فِي تِلْكَ المُدَّةِ، وَإِنْ كَانَ مُسْلِمًا، وَجَاءَتِ المُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ، وَكَانَتْ أُمُّ كُلْثُومٍ بِنْتُ عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ مِمَّنْ خَرَجَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَئِذٍ، وَهِيَ عَاتِقٌ، فَجَاءَ أَهْلُهَا يَسْأَلُونَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُرْجِعَهَا إِلَيْهِمْ، فَلَمْ يُرْجِعْهَا إِلَيْهِمْ، لِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِنَّ: {إِذَا جَاءَكُمُ المُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ، فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ} الممتحنة/10 إِلَى قَوْلِهِ: {وَلاَ هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} الممتحنة/10" رواه البخاري.
وجه الاستدلال بهذا الحديث أنّ من شروط صلح الحديبية أنّ من جاء بعد هذا الصلح من مكة مسلماً مهاجراً يجب على المسلمين ردّه، ولكن تم تخصيص النساء من هذا الحكم، فمن أسلمت منهن وجاءت مهاجرة مسلمة فيحرم إرجاعها إلى الكفار، وهذا ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم في شأن أم كلثوم بنت عقبة، والتي جاء في ترجمتها أنها أسلمت بمكة قديماً، وصلت القبلتين، وبايعت رسول الله صلَّى اللَّهُ علَيهِ وَسَلَّمَ وهاجرت إلى المدينة ماشية، فسار أخواها الوليد وعمارة ابنا عقبة خلفها ليرداها، فمنعها الله تعالى. [انظر: أسد الغابة في معرفة الصحابة لابن الأثير 7/ 376]، فنزل هذا الحكم العام في تحريم زواج المسلمة من غير المسلم، فليس لأقارب المرأة من الكفار إجبارها على الزواج من غير المسلم؛ لأن ذلك يقع باطلاً بالإكراه وبالرضا أيضاً.
كما أجمع الفقهاء على حرمة زواج المسلمة من غير المسلم، والاستدلال بالإجماع هو للردّ على من يحاول التشكيك في حرمة زواج المسلمة من غير المسلم، فيأتي الدليل من الإجماع الشرعي، حيث اتفاق المجتهدين وخاصة من عصر الصحابة ومن تبعهم بإحسان، وهم الأقدر فقهاً ولغةً وسلوكاً على فهم الأحكام الشرعية، حيث أجمعوا على تحريم زواج المسلمة من غير المسلم.
قال ابن قدامة رحمه الله: "ولا يزوج كافر مسلمة بحال، قال: "أما الكافر فلا ولاية له على مسلمة بحال، بإجماع أهل العلم، منهم: مالك، والشافعي، وأبو عبيد، وأصحاب الرأي، وقال ابن المنذر: أجمع على هذا كل من نحفظ عنه من أهل العلم" [المغني7/ 27].
والاستدلال من المعقول عن حكمة تحريم زواج المسلمة من غير مسلم، حتى لو كان كتابياً، بينما أباح الإسلام زواج المسلم من الكتابية من عدة جوانب:
أ- أن المسلم أبيح له الزواج من الكتابيات؛ لأنه لا يجبرهن على ترك دينهن؛ لأن المسلم يعترف بأن الأديان السماوية كلها أصلها واحد، قال الله تعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} البقرة/285، بينما غير المسلم لا يعترف بالإسلام، فلا ضرر من المسلم على زوجته إن كانت كتابية، بينما هناك مخاطرة في زواج المرأة المسلمة من رجل غير مسلم لا يعترف بدينها، مما يهدد استقرار الحياة الزوجية.
ب- وقد أباح الإسلام أن يتزوج المؤمن الكتابية، ولم يبح للكتابي أن يتزوج المؤمنة، وذلك في قول الله تعالى: {وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} المائدة/5.
وذلك أن الرجل أقوى من المرأة، وأقدر على التحكم في عواطفه، وأن تأثيره على المرأة أكثر من تأثيرها عليه، وهو أحرص على دينه من حرصها على دينها، وذلك في الأعم الأغلب.
ج- شُرع الزواج من أجل المساهمة في تحقيق السعادة الفردية والسعادة المجتمعية؛ لذا فإن الناظر في تشريعات الإسلام يرى أنها لا تصدر التشريع إلا بعد الإحاطة بمقاصده ومنافعه وأضراره على صعيد الفرد والمجتمع؛ لذا ليس لأحد أن يعترض على تحريم زواج المسلمة من غير المسلم، بحجة أن في ذلك تحيزاً؛ لأنّ الشرع الشريف وهو يقنن لموضوع الزواج نبه على ضرورة وجود الانسجام بين الزوجين والكفاءة، وإذا لم تراع الكفاءة في الدين ففيمَ ستراعى؟
ومن هنا حتى في زواج المسلمين من بعضهم البعض، حث الشرع الشريف على قيام الزوجية على المودة والرحمة وكفاءة الدين، عَن أبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِذَا خَطَبَ إِلَيْكُمْ مَنْ تَرْضَوْنَ دِينَهُ وَخُلُقَهُ فَزَوِّجُوهُ، إِلا تَفْعَلُوا تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ، وَفَسَادٌ عَرِيضٌ) رواه الترمذي.
وأما من حيث القانون، فقد جاء في مادة (30) من قانون الأحوال الشخصية الأردني في التفريع الرابع من فقرة (أ) التي نصت على الحالات التي يكون الزواج فيها باطلاً، ومنها تزوج المسلمة بغير المسلم.
د- إن في الالتزام بهذا الحكم محافظة على مقصد عظيم من مقاصد الشريعة، ألا وهو المحافظة على دين الزوجة وهو بقاؤها على الإسلام، ولو كان الحكم بخلاف ذلك فلنا أن نتصور قيام النزاعات بين المرأة المسلمة وبين زوجها، مما يعني الذهاب في مجال هدم الأسر وتفككها؛ لذا كان هذا التشريع بتحريم زواج المسلمة من غير المسلم، والذي إذا تدبرته العقول النيّرة ازدادت إعجاباً بالتشريع الإسلامي، الذي حمى الإنسانية من كل خطر وضلال وارتقى بها مادياً وروحياً نحو سبل الكمال. والله تعالى أعلم.