الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله
إنّ صحّة اعتقاد المسلم مقصد ضروري أصيل من مقاصد الشريعة الإسلامية تحقيقاً لمصلحة حفظ الدين، ولذلك حاطه الإسلام بأعلى رعاية وأولى اهتمام، قال الله تعالى: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} المؤمنون/117.
وأما "مذهب التجسيم"؛ فأصحابه يعتقدون أن الله جسم وأن له أعضاء وجوارح، لكنهم يجعلون الله أعظم من سائر الأجسام، ويحتجّون لإثبات مذهبهم بظواهر النصوص المتشابهة التي ورد فيها لفظ اليد والعين والوجه والاستواء مثلاً، وهو احتجاج باطل؛ لأنّ معاني هذه الظواهر اللغوية ليست مرادة للشارع، بل هي جارية على أساليب العرب الفصحاء في كلامهم، قال ابن الجوزي الحنبليّ منكراً على المشبهة والمجسمة: "وقد أخذوا بالظواهر في الأسماء والصفات، فسمّوها بالصفات تسمية مبتدعة لا دليل لهم في ذلك من النقل ولا من العقل، ولم يلتفتوا إلى النصوص الصارفة عن الظواهر إلى المعاني الواجبة لله تعالى، ولا إلى إلغاء ما توجبه الظواهر من سمات الحدث" [دفع شبه التشبيه ص19]، وكل لفظ من متشابهات الكتاب والسنة يدلّ على التجسيم أو لوازمه من الحيز والمكان والجهة والعلو الحسّي وغير ذلك فيجب شرعاً عدم اعتقاد ظاهره، بل يجب تنزيه الله عن ذلك المعنى الباطل؛ لأنه محال عقلاً وشرعاً، قال الله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} الشورى/11، ولو صحّ كون الله جسماً لانتفت ألوهيته سبحانه، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.
ومنهج أهل السنة والجماعة في هذه المتشابهات هو تنزيه الله تعالى عما لا يليق به من التجسيم ومشابهة الخلق، وقد اتفقت على ذلك كلمة أئمة أهل السنة والجماعة، وهذه نقولات عن أكابر هؤلاء الأئمة، قال الإمام الطحاوي في عقيدته: "فإن ربنا جلّ وعلا موصوف بصفات الوحدانية منعوت بنعوت الفردانية ليس في معناه أحد من البرية، وتعالى عن الحدود والغايات والأركان والأعضاء والأدوات لا تحويه الجهات الست كسائر المبتدعات"، وقال الحافظ ابن حبان: "الحمد لله الذي ليس له حدّ محدود فيحتوى، ولا له أجل معدود فيفنى، ولا يحيط به جوامع المكان، ولا يشتمل عليه تواتر الزمان، ولا يدرك نعمته بالشواهد والحواس، ولا يقاس صفات ذاته بالناس" [الثقات لابن حبان1/ 1]، وقال الإمام المحدث الخطابي: "والله سبحانه موصوف بصفاته منفي عنه ما لا يليق به من صفات الآدميين ونعوتهم، ليس بذي جوارح ولا بذي أجزاء وأبعاض، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير" [معالم السنن4/ 330]، وجاء في كتاب [الأسماء والصفات للحافظ البيهقي1/ 236]: "لأن اسم الإله إذا ثبت فكل وصف يعود عليه بالإبطال وجب أن يكون منفياً بثبوته، والتشبيه من هذه الجملة؛ لأنه إذا كان له من خلقه شبيه وجب أن يجوز عليه من ذلك الوجه ما يجوز على شبيهه، وإذا جاز ذلك عليه لم يستحق اسم الإله، كما لا يستحقه خلقه الذي شبهه به، فتبيّن بهذا أن اسم الإله والتشبيه لا يجتمعان، كما أن اسم الإله ونفي الإبداع عنه لا يأتلفان. وبالله التوفيق".
وقال الحافظ ابن عساكر في بيان التنزيه ونفي التشبيه عند الأشاعرة والإمام الأشعري: "فإنهم بحمد الله ليسوا معتزلة ولا نفاة لصفات الله معطلة، لكنهم يثبتون له سبحانه ما أثبته لنفسه من الصفات، ويصفونه بما اتّصف به في محكم الآيات، وبما وصفه به نبيه صلى الله عليه وسلم في صحيح الروايات، وينزهونه عن سمات النقص والآفات، فإذا وجدوا من يقول بالتجسيم أو التكييف من المجسمة والمشبهة ولقوا من يصفه بصفات المحدثات من القائلين بالحدود والجهة فحينئذٍ يسلكون طريق التأويل، ويثبتون تنزيهه بأوضح الدليل، ويبالغون في إثبات التقديس له والتنزيه، خوفاً من وقوع من لا يعلم في ظلم التشبيه" [تبيين كذب المفتري فيما نسب إلى الأشعري ص388].
وخلاصة القول أن لأهل السنة والجماعة مذهبين بعد الاتفاق على وجوب تنزيه الله تعالى عما لا يليق به من التجسيم ومشابهة الخلق؛ وهما: التأويل: وهو نفي الظاهر مع بيان مراد الله تعالى، والتفويض: وهو نفي الظاهر مع التوقف عن بيان مراد الله تعالى، وكلّ من المذهبين يحقّق التنزيه الواجب على المكلفين، قال الإمام الفخر الرازي: "حاصل هذا المذهب أن هذه المتشابهات يجب القطع فيها بأنّ مراد الله تعالى منها شيء غير ظواهرها، ثم يجب تفويض معناها إلى الله تعالى ولا يجوز الخوض في تفسيرها، وقال جمهور المتكلمين: بل يجب الخوض في تأويل تلك المتشابهات" [أساس التقديس137- 138]، وقال الإمام النووي: "هذا الحديث من أحاديث الصفات، وفيها مذهبان تقدم ذكرهما مرات في كتاب الإيمان، أحدهما: الإيمان به من غير خوض في معناه، مع اعتقاد أن الله تعالى ليس كمثله شيء وتنزيهه عن سمات المخلوقات، والثاني: تأويله بما يليق به" [شرح صحيح مسلم5/ 24]، وقال العلامة اللقانيّ في نظمه الشهير [جوهرة التوحيد]: "وكل نصٍّ أوهم التشبيها *** أوّله أو فوّض ورمْ تنزيهاً".
هذا؛ وإنّ فِرق المجسمة كثيرة متشعّبة مع قلّة عددهم في تاريخ الإسلام، ولهم في وصف ذات الله تعالى بالنقائص والأعضاء والجوارح والنوم والنسيان أمور شنيعة وعظائم لا يليق بنا ذكرها، جاء في [مقالات الإسلاميين للإمام الأشعري1/ 165]: "اختلفت المجسمة فيما بينهم في التجسيم، وهل للبارئ تعالى قدر من الأقدار؟ وفي مقداره على ستّ عشرة مقالة، فقال هشام بن الحكم: إن الله جسم محدود عريض عميق طويل...، وقد ذكر عن بعض المجسمة أنه كان يثبت البارئ ملوناً ويأبى أن يكون ذا طعم ورائحة...، وقال قائلون: إن البارئ جسم وأنكروا أن يكون موصوفاً بلون أو طعم أو رائحة أو مجسة أو شيء مما وصف به هشام، غير أنه على العرش مماس له دون ما سواه".
ومن المجسمة فرق تصرح بالتجسيم، ويقولون بأنّ الله جسم كالأجسام، ومنهم فرق أخرى لا تصرح بذلك، بل يقولون إن الله جسم لا كالأجسام، وكل من القولين باطل؛ لأن الله ليس جسماً أصلاً، بل هو منزّه عما يقوله هؤلاء.
وعليه؛ فإنّ مذهب التّجسيم باطلٌ في اعتقاد الإسلام، ولا يجوز اتباعه؛ لأنه مخالف لمنهج أهل السنة والجماعة، ولم يقم على صحته دليلي نقليّ، بل الأدلة العقلية والنقلية متضافرة على بطلانه وتخطئة القائلين به، ولم يقلْ به أحد من السلف ولا من الخلف، وكل ما ورد عن أحدهم مما يخالف عقيدة التنزيه، فإما أنه غير ثابت نقلاً، أو مؤول بما ذكرناه من العقيدة الصحيحة، ولم يذهب إلى التجسيم والتشبيه إلا قليل من الناس لا ينبغي الالتفات إليهم، ولا التعويل على أقوالهم وآرائهم. والله تعالى أعلم.