الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله
الإسلام دين الله تعالى الذي ارتضاه للناس كافة خاتماً للشرائع السماوية متمماً به مكارم الأخلاق، مراعياً به فطرة الإنسان وكرامته، قاصداً إلى تحقيق المقاصد العامة للشريعة الإسلامية، والتي منها حفظ النفس البشرية، فحرم الاعتداء عليها بأي صورة من الصور، سواء بتكفير أو قتل أو شتم أو إيذاء.
وقد حذّر النبيّ عليه الصلاة والسلام من فتنة التكفير لما تتركه من أثر شديد في تفريق الأمة وتمزيق قوتها، ولما تسببه من قتل للعباد ودمار للبلاد، فقال عليه الصلاة والسلام: (... وَمَنْ قَذَفَ مُؤْمِنًا بِكُفْرٍ فَهُوَ كَقَتْلِهِ) رواه البخاري، وقال عليه الصلاة والسلام: (إِذَا قَالَ الرَّجُلُ لِأَخِيهِ يَا كَافِرُ، فَقَدْ بَاءَ بِهِ أَحَدُهُمَا) رواه البخاري.
وأكّد النبي عليه الصلاة والسلام هذا التحذير من فتنة التكفير والتفسيق، فقال عليه الصلاة والسلام: (لاَ يَرْمِي رَجُلٌ رَجُلًا بِالفُسُوقِ، وَلاَ يَرْمِيهِ بِالكُفْرِ، إِلَّا ارْتَدَّتْ عَلَيْهِ، إِنْ لَمْ يَكُنْ صَاحِبُهُ كَذَلِكَ) رواه البخاري، وما كل ذلك التحذير إلا حرص من النبي على أمته، وتقرير لأهمية الإنسان وكرامته عند الله تعالى.
وقد حكم الإسلام بعصمة دم المسلم وماله وعرضه، وجعل من نطق بالشهادتين والتزم بأحكام الإسلام مسلماً، قال النبيّ عليه الصلاة والسلام: (مَنْ صَلَّى صَلاَتَنَا وَاسْتَقْبَلَ قِبْلَتَنَا، وَأَكَلَ ذَبِيحَتَنَا فَذَلِكَ المُسْلِمُ الَّذِي لَهُ ذِمَّةُ اللَّهِ وَذِمَّةُ رَسُولِهِ، فَلاَ تُخْفِرُوا اللَّهَ فِي ذِمَّتِهِ) رواه البخاري، قال الإمام العيني رحمه الله في [عمدة القاري 4/ 125]: "فِيهِ أَن أمُور النَّاس مَحمُولَة على الظَّاهر دون بَاطِنها، فَمن أظهر شَعائِر الدّين أجريت عَلَيهِ أَحْكَام أَهله مَا لم يظهر مِنهُ خلاف ذَلِك...، وذلك لأن تلك الصفات الثلاثة التي هي الصلاة واستقبال القبلة وأكل ذبائح المسلمين لا تجتمع إلاّ في مسلم مقر بالتوحيد والنبوة، معترف بالرسالة المحمدية".
وينبغي العلم بأنّ تكفير المسلم من أكبر الكبائر، فلا يجوز أن يُـكفر مسلم يؤمن بالله والرسول واليوم الآخر، وقد حذّرنا النبيّ عليه الصلاة والسلام في خطبة الوداع من خطورة التكفير وما يجلبه من الفرقة وسفك الدماء، حيث قال: (فَإِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى قَدْ حَرَّمَ عَلَيْكُمْ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ إِلَّا بِحَقِّهَا، كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا، فِي شَهْرِكُمْ هَذَا، أَلاَ هَلْ بَلَّغْتُ) ثَلاَثًا، كُلُّ ذَلِكَ يُجِيبُونَهُ: أَلاَ، نَعَمْ. قَالَ: (وَيْحَكُمْ، أَوْ وَيْلَكُمْ، لاَ تَرْجِعُنَّ بَعْدِي كُفَّارًا، يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ) رواه البخاري.
واتفق علماء أهل السنة والجماعة على عدم صحّة إطلاق حكم التكفير على المسلم، لما في حكم التكفير من استحلال للدماء والأموال والأعراض التي عصمها الله تعالى بكلمة الإسلام، ولما في ذلك من فساد وإفساد في الأرض.
وحذّر علماؤنا من المسارعة في التكفير والتكفير المضادّ، وبينوا أنّ التجرّؤ على إصدار أحكام الكفر على الناس محرم شرعاً؛ لما في ذلك من استهانة بالشرع وتجرّؤ على استحلال الدماء وإفساد للبلاد والعباد، فإنّ الحكم الصحيح لا يكون إلا بالتأكّد من المسألة والتدقيق فيها علمياً وشرعياً بالأدلة والإثباتات، يقول الإمام المليباري رحمه الله: "تنبيه: ينبغي للمفتي أن يحتاط في التكفير ما أمكنه لعظم خطره وغلبة عدم قصده، سيما من العوام، وما زال أئمتنا على ذلك قديماً وحديثاً" [فتح المعين 1/ 573]، وقال الإمام الدمياطي رحمه الله: "وليحذر ممن يبادر إلى التكفير في هذه المسائل...، فيخاف عليه أن يكفر؛ لأنه كفر مسلماً" [إعانة الطالبين 4/ 156].
ونبّه علماؤنا إلى أنّ الاختلاف الفكري بين الناس من طبيعة البشر، ولا يجوز أن يعالج إلا بالمحاورة والمجادلة بالتي هي أحسن، وذلك بالتفكير لا بالتكفير، قال ابن دقيق العيد رحمه الله: "وهذا وعيد عظيم لمن كفر أحداً من المسلمين، وليس كذلك" [إحكام الإحكام شرح عمدة الأحكام 2/ 210].
وإنما منع الإسلام التكفير وحذر منه لما يترتب عليه من فساد وإفساد وسفك للدماء وانتهاك للأعراض والأموال، وقد جاء الإسلام رحمة للعالمين، داعياً إلى حفظ النفوس والأموال والأعراض، قال الغزالي رحمه الله تعالى: "الخطأ في ترك ألف كافر في الحياة أهون من الخطأ في سفك محجمة من دم مسلم" [الاقتصاد في الاعتقاد 1/ 135].
ونحن نرى التكفيريين اليوم يسفكون الدماء ولا يراعون حرمة مسلم، وهم يسيرون خلف سلفهم الخوارج الذين كفروا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وصالحي هذه الأمة، واستباحوا دماءهم.
حفظ الله الأردن وجميع بلاد المسلمين من هذه الفتن ما ظهر منها وما بطن. والله تعالى أعلم.