الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله
حرم الإسلام الربا تحريماً قاطعاً؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ رِبًا إِلَّا هَاءَ وَهَاءَ، وَالبُرُّ بِالْبُرِّ رِبًا إِلَّا هَاءَ وَهَاءَ، وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ رِبًا إِلَّا هَاءَ وَهَاءَ، وَالتَّمْرُ بِالتَّمْرِ رِبًا إِلَّا هَاءَ وَهَاءَ) رواه البخاري؛ قال الإمام النووي رحمه الله: "وقد أجمع المسلمون على تحريم الربا في الجملة وإن اختلفوا في ضابطه وتفاريعه" [شرح النووي على مسلم 11/ 9].
وقد نصت الأحاديث على اعتبار الذهب والفضة من الأموال الربوية، وذهب السادة الشافعية إلى أن ضابط الربا في الذهب والفضة جنسية الأثمان غالباً؛ قال الإمام الشربيني رحمه الله: "وعلة الربا في الذهب والفضة جنسية الأثمان غالباً كما صححه في المجموع، ويعبر عنها أيضا بجوهرية الأثمان غالباً" [مغني المحتاج 2 /369]، فقصر الشافعية علة تحريم الربا في الأثمان بالذهب والفضة، وهو ما يسمى عند علماء الأصول بالعلة القاصرة التي لم تتجاوز المحل الذي وجدت فيه، ولذلك فلم يعتبروا الفلوس من الأموال الربوية؛ لأن الفلوس كانت تعتبر نقوداً نائبة، ولم يجرِ تداولها كأثمان غالباً.
قال الإمام النووي رحمه الله: "مذهبنا جواز التعليل بها -أي بالعلة القاصرة- فإن العلل أعلام نصبها الله تعالى للأحكام، منها متعدية، ومنها غير متعدية، إنما يراد منها بيان حكمة النص لا الاستنباط وإلحاق فرع بالأصل، كما أن المتعدية عامة التعدي وخاصته، ثم لغير المتعدية فائدتان:
إحداهما: أن تعرف أن الحكم مقصور عليها فلا تطمع في القياس .
والثانية: أنه ربما حدث ما يشارك الأصل في العلة فيلحق به.
وأجابوا عن الفلوس بأن العلة عندنا كون الذهب والفضة جنس الأثمان غالباً، وليست الفلوس كذلك، فإنها -وإن كانت ثمناً في بعض البلاد- فليست من جنس الأثمان غالباً، وإن لم تكن أثماناً" [المجموع 9 /394].
فتعبير الشافعية وغيرهم من المذاهب الفقهية عن العلة القاصرة لا يعني إغلاق باب القياس مطلقاً، وإنما عنوا بذلك أنهم لم يجدوا في زمانهم فرعاً تتوفر فيه علة الذهب والفضة ليقاس عليهما، فلم يكن ثَمّ معدن من المعادن يصلح للقيام بوظائف النقود كالذهب والفضة، وقد كانت الفلوس نقوداً مساعدة تستعمل في شراء السلع الرخيصة فلم يتحقق فيها معنى الثمنية، ولذلك سموا كلا من الذهب والفضة جوهر الأثمان أي أعلاها، ومناط هذه العلة متحقق اليوم في الأوراق النقدية بشكل أوضح من تحققه في الذهب والفضة.
فالأوراق النقدية مرت بمراحل تاريخية، ففي البدايات لما تعسر على الناس الاحتفاظ بالنقود المعدنية (الذهب والفضة)، صاروا يودعونها عند الصاغة الصيارفة ويحصلون بمقابل ذلك على صكوك بودائعهم، ولما ازدادت ثقة الناس بهذه الصكوك وأصبح المودعون يتداولون صكوك الصيارفة بدلاً من المعادن النفيسة لما في حملها من مشقة وخطر، ثم راج استخدامها بين الناس، ويتضح أنها كانت في هذه المرحلة تمثل من الناحية الفقهية سندات بدين.
ثم لما كثر تداول هذه الصكوك في السوق، تطورت هذه الأوراق إلى صورة البنكنوت، فكانت البنوك تصدرها بغطاء كامل من الذهب، وتتعهد بدفع قيمتها من الذهب، ثم تدخلت الدول وتولت إصدارها بنفسها عن طريق البنوك المركزية، وألزمت كل دائن أن يقبلها في اقتضاء دينه، ومع ازدياد الحروب والأزمات الاقتصادية وحاجة الدول إلى طباعة المزيد من الأوراق النقدية، صار الغطاء الذهبي للأوراق النقدية ينقص شيئاً فشيئاً حتى تم الإعلان عن انفصال الأوراق النقدية عن الغطاء الذهبي في سنة1971م، وأصبحت الأوراق النقدية نقداً مستقلاً يمثل قوة شرائية إلزامية، وقد استقر عند الفقهاء اليوم -ومنهم المجامع الفقهية ودور الفتوى الرسمية- أن الأوراق النقدية تعتبر نقداً مستقلاً تجري عليها أحكام النقود المعدنية من الربا والزكاة وغيرها؛ لأن الناس اليوم قد تعارفوا على اعتبار الأوراق النقدية نقوداً حقيقية؛ ولذلك قال الإمام ابن عابدين الحنفي رحمه الله عن الدراهم المغشوشة: "الدراهم التي غلب غشها إنما جعلت ثمناً بالاصطلاح، فإذا ترك الناس المعاملة بها بطل الاصطلاح، فلم تبق ثمناً" [حاشية ابن عابدين 4 /534].
فكلام متأخري الشافعية كالترمسي ودحلان والشرواني يُحمل على ما شاهدوه في زمانهم في بدايات مراحل الأوراق النقدية حين كانت تمثل سندات بدين، لذلك قال العلامة الشاطري -وهو من علماء الشافعية المعاصرين- في كتاب [شرح الياقوت النفيس ص/362]: "والأوراق المالية -أو العملة الورقية التي يتعامل بها الناس اليوم- التحقيق أن لها حكم النقدين".
وجاء في كتاب [الفقه المنهجي على مذهب الإمام الشافعي 6 /67]: "فكلّ ما يجري التعامل به من الأثمان، ويقوم مقام الذهب والفضة، كالعملات الرائجة الآن، يُعتبر مالاً ربوياً ويجري فيه الربا إلحاقاً بالذهب والفضة".
وجاء في كتاب [المعتمد في الفقه الشافعي للدكتور محمد الزحيلي 3 /107]: "وعلة الربا في الذهب والفضة، فهما جنس الأثمان غالباً، ويقاس عليهما بقية النقود التي تعمل بدل الذهب والفضة".
وبالتالي فلا يجوز لأحد أن ينقل من كلام متأخري الشافعية -مما هو مبني على العادة والعرف- ما شاهدوه في زمانهم وحكموا عليه ليقيس كلامهم ويطبقه على واقع مختلف، وفي ذلك يقول الإمام القرافي رحمه الله: "إنّ إجراء الأحكام التي مُدْرَكُها العوائد، مع تغيّر تلك العوائد خلاف الإِجماع وجهالة في الدَّين، بل كلّ ما هو في الشريعة يتبع العوائد: يتغيّر فيه عند تغيّر العادة إلى ما تقتضيه العادة المتجددة، وليس هذا تجديداً للاجتهاد من المقلدين حتى يشترط فيه أهلية الاجتهاد، بل هذه قاعدة اجتهد فيها العلماء وأجمعوا عليها" [الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام ص/ 218].
وقال إمام الحرمين رحمه الله: "ومن لم يمزِج العرف في المعاملات بفقهها لم يكن على حظ كامل فيها" [نهاية المطلب في دراية المذهب 11 /382].
ولا يخفى أن الفتوى بعدم ربوية الأوراق النقدية يفتح باب المفاسد والشرور على المجتمعات، فالأزمات الاقتصادية التي نعيشها اليوم يرجع أهم أسبابها إلى التعامل بالربا وتسليع النقود، فاضطربت قيمة النقد، وارتفعت الأسعار، وازداد التضخم والبطالة، وازدادت معدلات الفقر والإفلاس، وتخلخلت اقتصاديات الدول واضطربت، وبالتالي فإن تشريع عدم ربوية الأوراق النقدية يؤدي إلى الفساد، ولو كان أئمة المذاهب الفقهية على قيد الحياة اليوم لأفتوا بربوية الأوراق النقدية، ولذلك نجد أن علماء الحنفية في بلاد ما وراء النهر أفتوا بحرمة التفاضل في النقود المغشوشة -مع أن معتمد المذهب الحنفي يقضي جواز التفاضل فيها- وعللوا ذلك: "أنها أعز الأموال في ديارنا، فلو أبيح التفاضل فيه ينفتح باب الربا" [الهداية في شرح بداية المبتدي 3 / 84]، كما نُقل عن إمام دار الهجرة مالك بن أنس رحمه الله أنه قال: "ولو أن الناس أجازوا بينهم الجلود حتى تكون لها سكة وعين لكرهتها أن تباع بالذهب والورق نظرة" [المدونة 3 /5].
وعليه، فالذي نراه أن الأوراق النقدية تأخذ حكم الذهب والفضة من تحريم الربا ووجوب الزكاة وغيرهما. والله تعالى أعلم.