الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله
حث الشارع على إظهار المواساة والتعاضد بين المسلمين في مصيبة الموت؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مَا مِنْ مُؤْمِنٍ يُعَزِّي أَخَاهُ بِمُصِيبَةٍ، إِلا كَسَاهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ مِنْ حُلَلِ الْكَرَامَةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) رواه ابن ماجه، وحث على صنع الطعام لأهل الميت وعدم تكلفتهم؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اصْنَعُوا لآلِ جَعْفَرٍ طَعَامًا، فَإِنَّهُ قَدْ أَتَاهُمْ أَمْرٌ شَغَلَهُمْ) رواه أبو داود والترمذي، وقال: هذا حديث حسن.
وقد نص الفقهاء على عدد أيام التعزية، فقالوا بأنها ثلاثة أيام، قال الإمام زكريا الأنصاري الشافعي: "ولا تعزية بعد ثلاث من الأيام تقريباً، أي تكره بعدها، إذ الغرض منها تسكين قلب المصاب والغالب سكونه فيها، فلا يجدد حزنه، وقد جعلها النبيّ صلى الله عليه وسلم نهاية الحزن بقوله: (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاثة أيام إلا على زوج أربعة أشهر وعشرا) رواه البخاري". [أسنى المطالب1/ 334].
وقد شاع في عصرنا مظاهر للإسراف والبذخ في مناسبات العزاء، وصار الناس يتباهون بألوان الطعام في وجبات الغداء والعشاء، وبعضها على حساب أهل الميت، ويبالغون في خيم العزاء بما يفوق طاقة أهل الميت، وأما المقدار الذي يحصل به التعزية عرفاً فلا حرج فيه بدون تكلف.
ومما شاع بين الناس في مناسبات العزاء استقبال أهل الميت للوفود والضيوف التي تأتي لتقديم العزاء، وهذا لا بأس به شرعاً، بشرط تجنب مظاهر الإسراف.
وأما إطعام الطعام للمعزين، فالأصل فيه أن يُعدَّ الطعام لأهل الميت بسبب انشغالهم بمصابهم، قال العلامة ابن الحاج المالكي: "يستحب تهيئة طعام لأهل الميت ما لم يكن الاجتماع للنياحة وشبهها؛ لما روى الترمذي وأبو داود عن عبد الله بن جعفر قال: لما جاء نعي جعفر قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اصنعوا لآل جعفر طعاماً فإنه قد جاءهم ما يشغلهم)". [المدخل لابن الحاج 3 / 275].
وجاء في [شرح المقدمة الحضرمية ص: 476]: "يسن لنحو جيران أهل الميت وإن لم يكونوا جيرانه أو كانوا ببلد غير بلده ولأقاربه الأباعد تهيئة طعام يشبعهم يوماً وليلة، وأن يلحّ عليهم في الأكل".
ويجوز أن يعدّ أهل الميت الطعام لضيوفهم إكراماً لهم وحرصاً على راحتهم إذا كانت بهم حاجة، كمن جاء من أماكن بعيدة للقيام بالتعزية، قال الإمام ابن قدامة الحنبلي: "فأما صنع أهل الميت طعاماً للناس، فمكروه؛ لأن فيه زيادة على مصيبتهم، وشغلاً لهم إلى شغلهم، وتشبهاً بصنع أهل الجاهلية... وإن دعت الحاجة إلى ذلك جاز؛ فإنه ربما جاءهم من يحضر ميتهم من القرى والأماكن البعيدة، ويبيت عندهم، ولا يمكنهم إلا أن يضيفوه" [المغني لابن قدامة 2/ 410].
وعليه؛ نشكر العشائر التي توافقت على تخفيف تكاليف العزاء ونشد على أياديهم في صنيعهم المبرور هذا، ونناشد العشائر الأخرى بأن يبادروا لمثل هذه التوافقات، فذلك من الاجتماع على كلمة الخير والمعروف، قال الله تعالى: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى) المائدة/ 2، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مَنْ دَلَّ عَلَى خَيْرٍ فَلَهُ مِثْلُ أَجْرِ فَاعِلِهِ) رواه مسلم. والله تعالى أعلم.