الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله
أوجب الشرع الشريف على المكلفين معرفة الله تعالى، لقوله عز وجل: (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ) محمد / 19، وقول الله تعالى: (اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) الحديد / 17.
ومعرفة الله إنما تتحقق للمكلف بأن يثبت لله تعالى ما يجب من صفات الكمال، وأن ينفي عنه ما يستحيل من صفات النقص، ويحكم بجواز أفعاله من إيجاد وإعدام، وإحياء وإماتة، وخلق وبعث، قال الله تعالى: (وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا) النجم / 42-44.
يقول صاحب جوهرة التوحيد:
فَكُلُّ مَنْ كُلَّـفَ شَرْعًـا وَجَبَـا عَلَيْهِ أَنْ يَعْـرِفَ: مَـا قَـدْ وَجَبَـا
لِلّـهِ وَالجَائـزَ وَالمُمْتَنِـعَـا وَمِـثْـلَ ذَا لِرُسْـلِـهِ فَاسْتَمِـعَـا
وأصل المعرفة المطلوبة شرعاً للمكلف يكون بأن ينظر ويفكر في آيات الله تعالى وعظيم خَلقه، فيتوصل بذلك النظر إلى المعرفة الصحيحة، فالنظر الموصل إلى المعرفة واجب؛ لأن ما يتوقف عليه الواجب واجب، وقد قال الله تعالى في الأمر بالنظر: (أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ) الغاشية / 17، وقد بين الإمام التفتازاني أن النظر واجب بدليل وجوب المعرفة شرعاً، قال: "الواجب المطلق الذي هو المعرفة، وكل مقدور يتوقف عليه الواجب المطلق فهو واجب شرعاً". [شرح المقاصد في علم الكلام 1/ 45].
وأما المكلف فهو كل بالغ عاقل، مهما كان وصفه بعد ذلك، فالرجل والمرأة مكلفان بمعرفة الله تعالى والنظر الموصل إليها، قال إمام الحرمين الجويني: "الناس في الإسلام قسمان: مكلف، وغير مكلف، فالمكلف هو العاقل البالغ، حراً كان أو عبداً، ذكراً كان أو أنثى، فيصح إسلامه بنفسه، ولا يُتصوّر أن يَتْبَع في الإسلام غيرَه" [نهاية المطلب 8 / 519-520].
وقال الشيخ البيجوري: "(كل من كلف): أي كل فرد من المكلفين، ذكراً كان أو أنثى" [جوهرة التوحيد 1 / 77] باختصار.
وينبغي أن يُعلم أنّ العلماء لم يشترطوا في المؤمن أن يحقق النظر التفصيلي والترتيب العقلي للدلائل والمسائل، بل أوجبوا النظر الإجمالي فقط، وهو ما لا يخلو عنه عوام الناس من المكلفين، فكلهم يستدلّ في نفسه -وإن لم يتلفظ بلسانه- على وجود الله بحسب مستواه وقدرته، ولو فرض وجود مكلف لم ينظر البتة، بل كان مقلداً محضاً، فإنهم يعدّونه مقصراً في بعض ما يجب عليه من التكاليف الفرعية، فيكون بذلك مؤمناً عاصياً، وقد أشار العضد الإيجي إلى الاكتفاء بالنظر الإجمالي، فقال: "فمن كان مصدقا حقيقة، كان عالماً بهذه الأمور كلها، وإن لم يكن له تنقيح الأدلة وتحريرها، فإن ذلك ليس شرطاً في العلم والخروج عن التقليد" [المواقف 3 / 548].
وعليه؛ يجب على كل مكلف ذكراً أو أنثى أن يعرف الله تعالى بمعرفة ما يجب له تعالى من الصفات الواجبة، كالوجود، والقِدَم، والبقاء، والوحدانية، وتنزهه عن صفات المخلوقات، واتصافه بالعلم والإرادة والقدرة والسمع والبصر والكلام والحياة، وتنزيهه عن الاتصاف بصفات الأجسام والأعراض من الحدود، والغايات، والجهات، والتغير، والانتقال، ونحوها، وأن يعرف الرسل بما يجب لهم من الصدق والأمانة والتبليغ والفطانة، وأن يؤمن بما ثبت عن الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم من الأمور الغيبية التي لا يتوصل لها العقل إلا بواسطة السمع. والله تعالى أعلم