الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله
لا نرى حرجاً في استئجار الفحل من الدواب أياماً معلومة، أو مرات محددة، وينتفع المستأجر في تلك المدة بإنزاء الفحل على الأنثى من الدواب، ويشفع لهذا الحكم بالجواز أمور عدة:
أولا: المقصود بالنهي الوارد في حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: (نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ عَسْبِ الفَحْلِ) متفق عليه، هو استئجار الفحل لتحقيق الحمل، وهذا من بيوع الغرر؛ لأن تحقق الحمل غير مضمون، والشريعة وردت بالنهي عن كل ما فيه غرر يفضي إلى التنازع والغبن، وهو الأشبه في تفسير هذا النوع من البيوع، والأقرب إلى قياس النظائر الفقهية الأخرى.
أما إذا استؤجر الفحل للضراب مطلقاً سواءً وقع الحمل أم لم يقع، فلا غرر في هذا البيع، ولا وجه للنهي عنه، بل الأصل جوازه لما فيه من تحقق "المنفعة المقصودة المنضبطة" كما يقول القرافي رحمه الله.
يقول الإمام مالك رحمه الله: "إذا استأجره - يعني الفحل - ينزيه أعواماً معروفة بكذا وكذا فهذا جائز، وإن استأجره ينزيه شهراً بكذا وكذا فذلك جائز، وإن استأجره ينزيه حتى تعلق الرمكة - أي الفرس - فذلك فاسد لا يجوز". [المدونة3/438].
ويقول الشيخ الدردير المالكي رحمه الله -في معرض تعداد صور من بيوع الغرر المنهي عنها-: "(كعسيب الفحل يستأجر على عقوق - أي إحمال - الأنثى) حتى تحمل، ولا شك في جهالة ذلك؛ لأنها قد لا تحمل، (وجاز زمان) كيوم أو يومين (أو مرات) كمرتين أو ثلاث بكذا". [الشرح الكبير مع حاشية الدسوقي3/58].
ثانيا: قال فقهاؤنا الشافعية رحمهم الله: من استأجر الفحل للانتفاع به انتفاعاً مطلقاً من غير تحديد منفعة الإنزاء ولا غيرها، فاستعمله المستأجر في طروق الأنثى تبعاً لا استقلالاً فلا يدخل ذلك في النهي، بل قال آخرون من الشافعية إن النهي متعلق بما إذا استأجر الفحل لينزو على الأنثى، وهذا ما قد لا يحصل، فالفحل قد ينزو بنفسه وقد لا ينزو، ولكن إذا استأجر صاحبَ الفحل ليساعد في إطراق الفحل وتيسير طريقة إنزائه على الأنثى فلا حرج حينئذ.
يقول ابن حجر الهيتمي رحمه الله: "يستأجر صاحب الأنثى الفحل بمال معين زمناً معيناً ولو ساعةً لأن ينتفع به ما شاء، فتصح هذه الإجارة، كما هو قياس كلامهم في بابها، ويستوفي منافعه ولو بأن يحمله على أنثاه؛ لأن ما لا يجوز الاستئجار له قصدا يجوز له تبعا".[الزواجر1/382].
ويقول الشبراملسي الشافعي رحمه الله: "محل حرمة الاستئجار حيث استأجره للضراب قصداً، فلو استأجره لينتفع به ما شاء جاز أن يستعمله في الإنزاء تبعا لاستحقاقه المنفعة، بخلاف ما لو استأجره للحرث أو نحوه فلا يجوز استعماله في الإنزاء؛ لأنه إنما أذن له في استعماله فيما سماه له من حرث أو غيره".[حاشية نهاية المحتاج3/447].
ثالثا: من منع من إجارة الفحل مطلقاً كالحنفية والحنابلة قالوا لا بأس بدفع هدية أو إكرامية غير مشروطة لصاحب الفحل.
يقول البهوتي الحنبلي رحمه الله: "وإن أطرق إنسان فحلَه بغير إجارة ولا شرط، فأهديت له هدية أو أكرم بكرامة لذلك، فلا بأس؛ لأنه فعل معروفاً فجازت مجازاته عليه". [كشاف القناع 3/563]. والله أعلم.