الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله
شرع الإسلام التقابض في عقود المعاوضات لتكون أداة لحفظ الحقوق وميزان لاستقرار العقود والمعاملات، وقد شدد الإسلام في موضوع تبادل الأموال الربوية والصرف أكثر مما شدد في غيره؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لاَ تَبِيعُوا الذَّهَبَ بِالذَّهَبِ إِلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ، وَلاَ تُشِفُّوا بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ، وَلاَ تَبِيعُوا الوَرِقَ بِالوَرِقِ إِلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ، وَلاَ تُشِفُّوا بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ، وَلاَ تَبِيعُوا مِنْهَا غَائِبًا بِنَاجِزٍ) رواه البخاري، قال الإمام النووي رحمه الله: "وقد أجمع العلماء على تحريم بيع الذهب بالذهب أو بالفضة مؤجلاً، وكذلك الحنطة بالحنطة أو بالشعير، وكذلك كل شيئين اشتركا في علة الربا" "شرح النووي على مسلم" (11/10).
وقد اشتراط الفقهاء لهذا القبض أن يكون حقيقياً بحيث يتم التسليم للعوضين في نفس المجلس، ولم يشترطوا الفورية في التسليم وإنما اكتفوا باتحاد مجلس العقد ولو تأخر التسليم ما دام المتعاقدان في نفس مجلس العقد ولم يتفرقا؛ قال النووي رحمه الله: أما إذا باع ديناراً بدينار كلاهما في الذمة ثم أخرج كل واحد الدينار، أو بعث من أحضر له ديناراً من بيته وتقابضا في المجلس فيجوز بلا خلاف عند أصحابنا؛ لأن الشرط أن لا يتفرقا بلا قبض وقد حصل ولهذا قال صلى الله عليه وسلم في الرواية التي بعد هذه ولا تبيعوا شيئاً غائباً منها بناجز إلا يداً بيد" "شرح النووي على مسلم" (11/ 10).
ومع تطور البشرية ابتكرت وسائل حديثة للقيام بعمليات المعاوضة بشكل عام ومبادلة العملات بشكل خاص، مما يتعذر فيها القيام بالقبض الحقيقي، فكان الملجأ أن يقام القبض الحكمي مقام الحقيقي؛ رفعاً للحرج والمشقة عن الناس، فالقبض الحكمي هو قبض اعتباري يقوم مقام القبض الحقيقي، وله شواهد من كلام الفقهاء المعتبرين منها: مسألة استبدال الدين بالثمن ومسألة تصارف ما في الذمة؛ قال الإمام النووي: "والجديد جواز الاستبدال عن الثمن، فإن استبدل موافقاً في علة الربا كدراهم عن دنانير اشترط قبض البدل في المجلس، والأصح أنه لا يشترط التعيين في العقد، وكذا القبض في المجلس إن استبدل ما لا يوافق في العلة كثوب عن دراهم" "منهاج الطالبين" (1/103).
والقبض الحكمي إنما يقوم مقام القبض الحقيقي إن توافر فيه شرطان:
الأول: أن يجري العرف التجاري العام والقوانين الدولية بقبول هذه الوسائل واعتبارها قبضاً تاماً، فيراعى في هذا الصدد الأعراف الاقتصادية والقانونية في عمليات القبض ما لم تتعارض مع قواعد الشرع؛ قال الإمام ابن قدامة رحمه الله: "ولأن القبض مطلق في الشرع، فيجب الرجوع فيه إلى العرف كالإحراز والتفرق" "المغني لابن قدامة" (4/85)، ومن أمثلة ذلك الإيداع والقيد المصرفي والشيكات ذات الرصيد القابلة للسحب؛ جاء في قرار مجمع الفقه الإسلامي الدولي رقم (55/4/6): "من صور القبض الحكمي المعتبرة شرعاً وعرفاً: 1-القيد المصرفي لمبلغ من المال في حساب العميل في الحالات التالية: (أ) إذا أودع في حساب العميل مبلغ من المال مباشرة أو بحوالة مصرفية. (ب) إذا عقد العميل عقد صرف ناجز بينه وبين المصرف في حالة شراء عملة بعملة أخرى لحساب العميل. (ج) إذا اقتطع المصرف -بأمر العميل-مبلغاً من حساب له إلى الحساب آخر بعملة أخرى، في المصرف نفسه أو غيره، لصالح العميل أو لمستفيد آخر، وعلى المصارف مراعاة قواعد عقد الصرف في الشريعة الإِسلامية، ويغتفر تأخير القيد المصرفي بالصورة التي يتمكن المستفيد بها من التسلم الفعلي للمُدد المتعارف عليها في أسواق التعامل، على أنه لا يجوز للمستفيد أن يتصرف في العملة خلال المدة المغتفرة، إلاَّ بعد أن يحصل أثر القيد المصرفي بإمكان التسلم الفعلي [أي أن التصرف لا يكون إلا بعد المدة المغتفرة، أما المبلغ فيدخل في حساب الطرفين مباشرة]. 2-تسلم الشيك إذا كان له رصيد قابل للسحب بالعملة المكتوب بها عند استيفائه وحجزه المصرف".
وينبغي التنبيه إلى أنه يؤخذ بالاعتبار في هذا الصدد اتساع مفهوم التجارة العالمية، وتوسع وسائل تبادل النقود في العصر الحديث، فصارت تشمل كل وسيط يتوصل به إلى تسهيل عملية تبادل السلع والخدمات بين الناس، كالحسابات الجارية وغيرها؛ قال الإمام مالك رحمه الله: "ولو أن الناس أجازوا بينهم الجلود حتى تكون لها سكة وعين لكرهتها أن تباع بالذهب والورق نظرة" "المدونة" (3/5). أما الشيكات ذات الرصيد القابل للسحب فالكلام فيها لا يختلف عن النقود الورقية؛ فالنقود الورقية تستمد قيمتها لا من ذاتها كالذهب، بل من قيمتها الشرائية، فقبض الشيك هو قبض لمحتواه كقبض الأوراق النقدية.
الثاني: ألا تتعارض مع قواعد الشرع في قبض الأموال الربوية؛ فلا يجوز أن يكون القبض مؤجلاً أو ديناً، بل يجب أن يكون قبضاً ناجزاً.
وعليه، فعقود الصرف وتداول العملات يشترط تحقق القبض فيها، لكن لا يشترط في القبض التسليم باليد بل يكتفى في حالات "التداول الالكتروني" بالتحويل للحساب المصرفي [القيد المصرفي] أو غير ذلك مما يعده الشرع والعرف قبضاً ناجزاً لا آجلاً. والله تعالى أعلم.