السؤال:
سمعت أن أحد الصحابة أفشى أسرار أحد الحروب التي كانت ضد الكفار، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم سامح هذا الصحابي بعد أن علم بالأمر، فهل هذا الصحابي أفشى سر الحرب بقصد الخيانة أم أفشى سر الحرب دون أن يقصد، وما اسم هذا الصحابي؟
الجواب:
الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله
إفشاء أسرار المسلمين كبيرة من الكبائر، وهو جريمة يعاقب مرتكبها عقوبة رادعة تتناسب وخطورة تلك الجريمة، غير أن الإمام له أن ينظر في عذر مرتكب تلك الجريمة ودوافع ما فعل، ثم يحكم عليه بعد ذلك بالعفو أو العقوبة.
والصحابي المقصود في السؤال هو حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه، أرسل إلى قريش يخبرهم بمسير النبي صلى الله عليه وسلم إليهم، ولم يكن يقصد خيانة المسلمين، وإنما خوفه على أهله الذين كانوا يعيشون بين المشركين، ولم يكن له قرابة يحمونهم كغيره من المهاجرين، فأراد أن يقدم للمشركين قربانًا ليضمنوا له حماية أهله، فلما علم النبي صلى الله عليه وسلم عفا عنه؛ لأنه شهد غزوة بدر.
وقد كان لأهل بدر خصوصية دون غيرهم من الصحابة، ولذلك عندما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه للنبي صلى الله عليه وسلم دعني أضرب عنق هذا المنافق قال: (إِنَّهُ قَدْ شَهِدَ بَدْرًا، وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ اللَّهَ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ) رواه البخاري.
يقول الإمام الخطابي رحمه الله: "في هذا الحديث من الفقه أن حكم المتأول في استباحة المحظور عليه خلاف حكم المتعمد لاستحلاله من غير تأويل" انتهى من "معالم السنن" (2/ 274).
وجاء في "شرح صحيح البخاري" لابن بطال (5/ 162): "قال الطبري: في حديث حاطب بن أبي بلتعة من الفقه أن الإمام إذا ظهر من رجل من أهل الستر على أنه قد كاتب عدوًا من المشركين ينذرهم ببعض ما أسره المسلمون فيهم من عزم، ولم يكن الكاتب معروفًا بالسفه والغش للإسلام وأهله، وكان ذلك من فعله هفوة وزلة من غير أن يكون لها أخوات؛ فجائز العفو عنه، كما فعله الرسول بحاطب من عفوه عن جرمه بعد ما اطلع عليه من فعله. وهذا نظير الخبر المروي عن عائشة رضي الله عنه أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (أَقِيلُوا ذَوِي الْهَيْئَاتِ عَثَرَاتِهِمْ إِلَّا الْحُدُودَ) رواه أحمد وأبو داود.
فإن ظن ظانٌّ أن صفحه صلى الله عليه وسلم إنما كان لما أعلمه الله من صدقه، ولا يجوز لمن بعد الرسول أن يعلم ذلك، فقد ظن خطأ؛ لأن أحكام الله في عباده إنما تجرى على ما ظهر منهم. وقد أخبر الله نبيه عن المنافقين الذين كانوا بين ظهراني أصحابه مقيمين معتقدين الكفر، وعرَّفه إياهم بأعيانهم، ثم لم يُبح له قتلهم وسبيهم؛ إذ كانوا يُظهرون الإسلام بألسنتهم، فكذلك الحكم في كل أحد من خلق الله أن يؤخذ بما ظهر لا بما بطن.
وقد رُوي مثل ذلك عن الأئمة؛ روى الليث بن سعد، عن يزيد بن أبى منصور قال: بلغ عمر بن الخطاب أن عامله على البحرين أُتي برجلٍ قامت عليه بينة أنه كاتب عدوًّا للمسلمين بعورتهم -وكان اسمه: أضرباس- فضرب عنقه وهو يقول: يا عمر، يا عمراه. فكتب عمر إلى عامله فقدم عليه فجلس له عمر وبيده حربة، فلما دخل عليه علا لجبينه بالحربة وجعل يقول: أضرباس لبيك، أضرباس لبيك. فقال له عامله: يا أمير المؤمنين، إنه كاتبهم بعورة المسلمين وهمّ أن يلحق بهم. فقال له عمر: قتلته على هذه، وأينا لم يهم، لولا أن تكون سيئة لقتلتك به" انتهى. والله أعلم.