الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله
رفع اليدين في الدعاء عموماً سنة مستحبة يدلّ عليها أحاديث كثيرة، أورد بعضها الإمام البخاري رحمه الله في [صحيحه] في (كتاب الدعوات/ باب رفع الأيدي في الدعاء)، وأفرد لها الإمام البخاري كتاباً أسماه "جزء رفع اليدين"، واستدل الإمام النووي رحمه الله في كتابه [الأذكار] وكتابه [المجموع شرح المهذب] بجملة من الأحاديث التي تدلّ على هذه السنة، والتي تعبر عن انكسار المسلم بين يدي الله تعالى وهو يدعوه.
والأحاديث الدالة على سنيّة رفع اليدين في الدعاء كثيرة، منها ما رواه مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ، يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ، يَا رَبِّ، يَا رَبِّ) أخرجه مسلم، وروى الترمذي وأبو داود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إِنَّ اللَّهَ حَيِيٌّ كَرِيمٌ يَسْتَحْيِي إِذَا رَفَعَ الرَّجُلُ إِلَيْهِ يَدَيْهِ أَنْ يَرُدَّهُمَا صِفْرًا خَائِبَتَيْنِ) أخرجه الترمذي وأبو داود.
وأمّا حديث البخاري من رواية أنس بن مالك رضي الله عنه: (أَنَّ نَبِيَّ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ لَا يَرْفَعُ يَدَيْهِ فِي شَيْءٍ مِنْ دُعَائِهِ إِلَّا فِي الِاسْتِسْقَاءِ، حَتَّى يُرَى بَيَاضُ إِبْطَيْهِ) أخرجه البخاري، فقد أجاب عنه الحافظ ابن حجر رحمه الله: "قوله (إلا في الاستسقاء) ظاهره نفي الرفع في كل دعاء غير الاستسقاء، وهو معارض بالأحاديث الثابتة بالرفع في غير الاستسقاء، وقد تقدم أنها كثيرة" [فتح الباري 2/ 517]، ثمّ ذكر من أوجه رفع الإشكال عن حديث أنس حمله على المبالغة في الرفع، فيكون المعنى لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يرفع يديه رفعاً بليغاً حتى يُرى بياض إبطيه إلا في الاستسقاء.
وهذا ما عليه جماهير العلماء من المذاهب الفقهية المعتبرة:
جاء في [مغني المحتاج 1/ 370]: "ويسنّ رفع يديه فيه -دعاء القنوت- وفي سائر الأدعية للاتباع، رواه فيه البيهقي بإسناد جيد، وفي سائر الأدعية الشيخان وغيرهما".
وقال الإمام النووي رحمه الله في [المجموع 3/ 507]: "عن أنس رضي الله عنه: أن النبي صلى الله تعالي عليه وسلم استسقى ورفع يديه وما في السماء قزعة، فثار سحاب أمثال الجبال، ثم لم ينزل من منبره حتى رأيت المطر يتحادر من لحيته" رواه البخاري ومسلم، والمقصود أن يعلم أنّ من ادعى حصر المواضع التي وردت الأحاديث بالرفع فيها فهو غالط غلطاً فاحشاً".
وقال الإمام العيني الحنفي رحمه الله: "والرفع سنة الدعاء: أي رفع اليدين سنة، وروي فيه أحاديث، منها ما أخرجه أبو داود في "سننه" في الدعاء من حديث ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (المسألة أن ترفع يديك حذو منكبيك أو نحوهما، والإشعار أن تشير بإصبع واحدة، والإهلال أن تمد يديك)" [البناية شرح الهداية 4/ 203].
وقال الإمام النفراوي المالكي رحمه الله في [الفواكه الدواني 2/ 330]: "وعلى الرفع -أي رفع اليدين خارج الصلاة- فهل يمسح وجهه بهما عقبه أم لا؟ والذي في الترمذي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا رفع يديه في الدعاء لم يحطهما حتى يمسح بهما وجهه، فيفيد أنه كان يرفعهما ويمسح بهما وجهه".
وقال الإمام البهوتي الحنبلي رحمه الله في كتاب [كشاف القناع 1/ 368]: "ومن آداب الدعاء: بسط يديه ورفعهما إلى صدره؛ لحديث مالك بن يسار مرفوعاً: "إذا سألتم الله فاسألوه ببطون أكفكم، ولا تسألوه بظهورها"، رواه أبو داود بإسناد حسن وتكون يداه مضمومتين، لما روى الطبراني في الكبير عن ابن عباس: "كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دعا ضم كفيه وجعل بطونهما مما يلي وجهه"، وضعفه في المواهب ويكون متطهراً، ويقدم بين يدي حاجته التوبة والاستغفار".
ومن المواضع التي اختلف في رفع اليدين فيها رفع خطيب الجمعة يديه أثناء الدعاء بعد الفراغ من الخطبة الثانية لحديث مسلم عن عمارة بن رؤيبة قال: رأى بشر بن مروان على المنبر رافعاً يديه فقال: (قَبَّحَ اللهُ هَاتَيْنِ الْيَدَيْنِ، لَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا يَزِيدُ عَلَى أَنْ يَقُولَ بِيَدِهِ هَكَذَا، وَأَشَارَ بِإِصْبَعِهِ الْمُسَبِّحَةِ) أخرجه مسلم؛ قال الإمام النووي رحمه الله في [شرحه على مسلم 6/ 162]: "فيه أن السنة أن لا يرفع اليد في الخطبة، وهو قول مالك وأصحابنا وغيرهم، وحكى القاضي عن بعض السلف وبعض المالكية إباحته؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم رفع يديه في خطبة الجمعة حين استسقى، وأجاب الأولون بأن هذا الرفع كان لعارض".
وعليه؛ فرفع اليدين في الدعاء عموماً سنة مستحبة يدلّ عليها أحاديث صحيحة كثيرة، ورفع خطيب الجمعة يديه أثناء الدعاء بعد الفراغ من الخطبة الثانية مسألة مختلف فيها، وقد اتجه رأي الإمام مالك والشافعية فيها إلى المنع، في حين رُوي عن بعض السلف وبعض المالكية إباحته، ولا حرج في الأخذ بأحد القولين. والله تعالى أعلم.