لقد شرَّفنا الله تعالى بشهر عظيم، تتطهر فيه النفوس، وتسمو فيه القلوب، فنتقرب إلى الله عز وجل بأنواع كثيرة من الطاعات والقربات، لنحظى بأعلى الدرجات، ونفوز بالجنات.
وفي العشر الأواخر تكثر البركات، وتعظم الهبات، وتُضاعف الحسنات، وتتنزل البركات، وتقال العثرات؛ فما أحوجنا في ظل هذه العشر وقبل الوداع أن نحسن الإقبال على الله تعالى، وأن نستدرك أيام التفريط، وأن نعوّض ما فات، ورحم الله من قال:
يا غافلاً وليالي الصوم قد ذهبت زادت خطاياك قف بالباب وابكيها
وتب لعلك تحظى بالقبول عسى أن تبلـغ النفس بالتقـوى أمانيها
وقدْ كَانَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم يخصُّ العشرَ الأواخرَ مِنْ رمضانَ بأعمالٍ، منْهَا:
-قيام اللَّيلِ:
كَانَ النبي صلى الله عليه وسلم إذا دَخَلت العَشْرُ: أحْيَا ليله، وَأَيْقَظَ أَهْلَهُ، وَشَدَّ مئزره (متفق عليه)؛ لأن قيام الليل هو دأب الصالحين، وتجارة المؤمنين، وعمل الفائزين:
بكى الباكـون للرحمن ليلاً وباتوا سجداً لا يسأمونا
بقاع الأرض من شوق إليهم تحن متى عليها يسجدونا
كان لبعض السلف خادماً يقوم الليل، فقال له سيده: إن قيامك بالليل يؤثر على عملك في النهار؛ فنم قليلاً. فقال:وماذا أعمل يا سيدي؟! إني إذا تذكرت الجنة طال شوقي إليها، وإذا تذكرت النار طال خوفي منها؛ فكيف لي أن أنام وأنا بين خوف يزعجني وشوق يقلقني.
وهذا الفضيل بن عياض يأخذ بيد الحسن بن زياد ويقول له: يا حسن، ينزل الله إلى السماء الدنيا فيقول: كذب من ادعى محبتي فإذا جنَّه الليل نام عني.
-تحري ليلة القدر:
قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم:(تَحَرَّوْا لَيْلَةَ القَدْرِ فِي العَشْرِ الأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ)متفق عليه. فهي ليلة مباركة، هي تاج ليالي الدهر، كثيرة البركات، عزيزة الساعات، القليل من العمل فيها كثير، مصداقاً لقوله تعالى:(لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ)القدر/3، ينزِل مِنَ السّماءِ خَلقٌ عَظيم لشُهودِ تلكَ اللّيلةِ:(تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ)القدر/4، القائم فيها بالتعبد مغفور له ذنبه إن أخلص النية لله تعالى، يقول المصطَفى صلوات ربي وسلامه عليه:(مَن قامَ ليلةَ القدرِ إيماناً واحتِساباً؛ غفِر لَه ما تقَدَّم مِن ذَنبِه)متفق عليه، فيها تُفتَح الأبوابُ، ويسمَع الخطاب. تقول عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها: قلتُ: يا رسولَ الله، أرأيتَ إن عَلِمتُ أيَّ ليلةٍ ليلةَ القدر ما أقول؟ قال:(قولي: اللهم إنَّك عفوٌّ تحبُّ العفو فاعف عنِّي) رواه أحمد.
فاحرص يا عبدَ الله أن تكون هذه الليلة في ميزان حسناتك:
يا خاطباً الحور في خدرها وطالباً ذاك على قدرها
انهض بجد لا تكن وانياً وجاهد النفس على صبرها
وقم إذا الليل بدا وجهه وصم نهاراً فذلك من مهرها
-الاعتكاف:
هو لزوم المسجد للعبادة، وتفريغ القلب للتفكر والاعتبار والإقبال على الله تعالى.. فاحرص على أن تقضي هذه اللحظات في طاعة الله وذكر له وتلاوة لآياته، كما كان يفعل سلف هذه الأمة:
فتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم إن التشبه بالكرام فلاح
فالغنيمة في هذه الأيام الكريمة، فما منها عوض ولا لها قيمة، فمن يُعتق فيها من النار فقد فاز بالجائزة العظيمة، والمنحة الجسيمة، يا من أعتقه مولاه من النار، إياك أن تعود بعد أن صرت حُرّاً إلى رق الأوزار، وقل يا عبدَ الله:
فيا عين جودي بالدمع من أسف على فراق ليال ذات أنوار
على ليال لشهر الصوم ما جُعلت إلا لتمحيص آثام وأوزار
ما كان أحسننا والشمل مجتمع منا المصلي ومنا القانت القاري
فابكوا على ما مضى في الشهر واغتنموا ما قد بقي إخوتي من فضل أعمار
روي عن علي رضي الله عنه أنه كان ينادي في آخر ليلة من شهر رمضان: "يا ليت شعري من هذا المقبول فنهنيه، ومن هذا المحروم فنعزيه"؟!
نسأل الله العظيم، رب العرش الكريم، أن يعتق رقابنا ورقاب آبائنا وأمهاتنا وأولادنا من النار، وأن لا يحرمنا ثواب ليلة القدر، إنه قريب سميع مجيب الدعاء.