رمضان هو شهر الله تعالى، يدخل فيه عبادُه في ضيافته وفيوض رحماته؛ ولذا كان السلف الصالح يقسمون العام إلى قسمين: فإذا جاء رمضان وفرغوا من صيامه تضرعوا إلى الله تعالى نصف العام أن يتقبل منهم الصيام والقيام وتلاوة القرآن، وأما النصف الباقي فيستغرقونه بالدعاء إلى الله تعالى أن يُبلِّغهم رمضان.
ولذا ما يكاد يودع المسلمون شهر شعبان إلا اشرأبت قلوبهم لمعانقة شهر الرحمة والمغفرة والرضوان؛ فهو كالماء للأرض إذا نزل عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج، وكذا إذا لامست نفحات رمضان شغاف قلوب المؤمنين أثمرت الجوارح وأينعت أعمالاً صالحة.
آيات القرآن الكريم وسنة الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم بينت أن القرآن والصيام شقيقان لا يفترقان. قال تعالى:(شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ)البقرة/185.
فالله جل وعلا -خالق الزمان والمكان- فضَّل بعضها على بعض لما اختص به من مكرمات، فاختص سبحانه رمضان ليكون فيه نزول القرآن.
وجمع النبي صلى الله عليه وسلم بينهما فقال:(الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة, يقول الصيام: أيْ ربِّ، منعتُه الطعام والشهوات بالنهار فشفِّعني فيه. ويقول القرآن: منعتُه النوم بالليل فشفِّعني فيه. قال: فيُشفَّعان)رواه أحمد.
وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتدارس القرآن مع جبريل عليه السلام في رمضان. عن ابن عباس رضي الله عنهما قال:"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان يلقاه في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن، فلرسول الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة" متفق عليه.
ومن هنا نجد إقبال المسلمين في رمضان على تلاوة القرآن وتدبره ومعرفة أحكامه؛ ذلك أن نزول القرآن في رمضان واكتماله يعني اكتمال التصور الإسلامي للحياة بكل معانيها، واقتران ذلك بالصيام له حكمة؛ فالإنسان في واقع الحياة يحتاج أولاً لمعرفة الحق، وهذا سبيله القرآن، ويحتاج ثانياً إلى إرادة وتجرد للالتزام بهذا الحق، وهذا يحتاج إلى مجاهدة دائمة للنفس ورغباتها، وهذا هو دور الصيام.
يذكر ابن رجب في كتابه "لطائف المعارف" عجائب وغرائب من حال السلف مع القرآن في رمضان. قال رحمه الله: "وكان بعض السلف يختم في قيام رمضان في كل ثلاث ليال، وبعضهم في كل سبع منهم قتادة، وبعضهم في كل عشرة منهم أبو رجاء العطاردي، وكان السلف يتلون القرآن في شهر رمضان في الصلاة وغيرها، كان الأسود يقرأ في كل ليلتين في رمضان، وكان النخعي يفعل ذلك في العشر الأواخر منه خاصة، وفي بقية الشهر في ثلاث، وكان للشافعي في رمضان ستون ختمة يقرؤها في غير الصلاة، وعن أبي حنيفة نحوه، وكان الزهري إذا دخل رمضان قال: فإنما هو تلاوة القرآن وإطعام الطعام، وقال ابن عبد الحكم: كان مالك إذا دخل رمضان يفر من قراءة الحديث ومجالسة أهل العلم، وأقبل على تلاوة القرآن من المصحف".
وأخيراً لا بد لنا ونحن نتلو القرآن أن نتدبر آياته، ونفهم أحكامه؛ لنُحِلَّ حلاله ونُحَرِّمَ حرامه؛ لعلنا نفوز وننجو عند ربنا، ويكون القرآن حجة لنا لا علينا، والحمد لله رب العالمين.