مقالات

رمضان مدرسة التقوى

الكاتب : سماحة الدكتور نوح علي سلمان رحمه الله

أضيف بتاريخ : 05-08-2010


Article

 

 

عندما يقترب رمضان يستقبله الناس بمشاعر مختلفة.. فمنهم من يراه فرصة للتخلص من الذنوب والأوزار، وهذا صحيح؛ فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ) متفق عليه.

ومنهم من يراه فرصة للتعبير عن الإيمان الراسخ واليقين الثابت، وهذا صحيح؛ فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل:(كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ يُضَاعَفُ؛ الْحَسَنَةُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعِمِئَةِ ضِعْفٍ، إِلاَّ الصَّوْمَ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ؛ يَدَعُ شَهْوَتَهُ وَطَعَامَهُ مِنْ أَجْلِي) رواه مسلم.

ومنهم من يراه فرصة يتخلص فيها من أسر العادات المرهقة في الطعام والشراب، فتستريح المعدة ويستريح الجسم كله، وهذا أيضاً صحيح؛ فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(مَا مَلأَ آدَمِيٌّ وِعَاءً شَرًّا مِنْ بَطْنٍ، بِحَسْبِ ابْنِ آدَمَ أُكُلاَتٌ يُقِمْنَ صُلْبَهُ، فَإِنْ كَانَ لاَ مَحَالَةَ فَثُلُثٌ لِطَعَامِهِ وَثُلُثٌ لِشَرَابِهِ وَثُلُثٌ لِنَفَسِهِ) رواه الترمذي والنسائي وابن ماجه وأحمد.

ولسنا نستطيع الإحاطة بمشاعر الناس نحو الشهر الكريم، ولكن الفائدة العظمى من الصيام والتي تتفرع منها كل الفوائد:أن الصوم يُعَلِّم تقوى الله عز وجل، ولذا قال تعالى:(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) البقرة/183.

والتقوى كلمة جامعة تعني:أن يقوم المسلم بكل الواجبات الشرعية، وأن يجتنب كل المحرمات بل والشبهات، وهذا لا يتأتى للإنسان إلا إذا شعر برقابة الله عز وجل، فهو الآمر بالواجبات، وهو الناهي عن المحرمات، ولذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم -عندما سئل عن الإحسان-:(أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ) متفق عليه.

ومن معاني الإحسان:الإتقان، وفعل الشيء على أفضل وجه. يقال: فلان أحسن في عمله: بمعنى أنه أتقنه. وفي دنيا الناس يتقن العامل عمله إذا شعر بمراقبة صاحب العمل، أو شعر برقابة الآمر له بالعمل، ومن شعر بمراقبة الله أتقن كل أعماله الدينية والدنيوية؛ إذ الأعمال الدنيوية قد أمرنا الله بإتقانها، ومن هنا قول الرسول صلى الله عليه وسلم:(مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا) رواه مسلم.

ومن هنا أيضاً لم يفرق الإسلام بين العمل الديني والدنيوي، ولا بين حقوق الله وحقوق العباد، من جهة أن الله يحاسب على كلٍّ منهما، ويثيب على أداء كل منهما، وله حق في كل منهما، وما التفريق إلا اصطلاح فني للفقهاء.

والصيام درس عملي في مراقبة الله؛ فأنت ترى الإنسان يقاوم العطش والماءُ قريب، وقد غاب عنه الرقيب، لكنه لا تمتد يده إليه لشعوره بمراقبة الله تعالى، وهكذا قل في باقي المفطرات، ومن شعر بمراقبة الله فقد دخل التقوى من أوسع أبوابها، ويأتي رمضان كل عام ليجدد هذا الشعور بالمراقبة ويغذي التقوى في صدور المؤمنين.

والذي يتتبع آيات القران العظيم التي ورد فيها ذِكْرُ التقوى يجد أن الله تعالى قد علق كل خير في الدنيا والآخرة على التقوى، ومن ذلك ما يلي:

1.قوله تعالى:(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا) الأنفال/29. ومن الفرقان ذلك النور الذي يجعله الله في القلب التقي فلا تختلط عليه الأمور، ولا يلتبس عليه الأشخاص، ولا تضل به السبل، بل يعرف الخطأ من الصواب، والصادق من الكاذب، والصالح من الطالح.

2.قوله تعالى:(وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ) الأعراف/96. والقرى:هي التجمعات البشرية. ومن آمن بأن الرزق من الله (إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ) الذاريات/58؛ لم يَخْفَ عليه وجه الارتباط بين التقوى والرزق، ومثله قول الله تعالى: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا، وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ) الطلاق: 2-3، وهذا في حق الأفراد حتى ولو كانوا في مجتمعات لا تتقي الله، والأفراد والجماعات يهتمون دائماً بإيجاد مخرج من الأزمات، وإيجاد دخل يحمي ماء الوجه من ذل الفاقة، والله الذي يرشد إلى أبواب الرزق وأبواب الخروج من الأزمات يرشدهم من أجل كلا الأمرين إلى التقوى، ويتكفل بالنتائج.

3.قوله تعالى:(إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) الحجرات/13، والكريم: هو الكريم عند الله؛ لأن إكرامه له لا ينتهي، والكريم عند أهل الله؛ لأن لهم موازين صحيحة في الإكرام والتكريم، وغيرهم مزاجي لا يعتد بمدحه ولا بذمه.

4.قوله تعالى:(وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى) طه/132؛ فإن الصراع بين الحق والباطل قديم جديد، لكن العاقبة للتقوى والمتقين، ودولة الباطل ساعة، ودولة الحق إلى قيام الساعة.

هذه الحقيقة تجعل أهل التقوى يصبرون، ويتفاءلون، ويضحون، ولذا أكد الله عليها مراراً في القرآن العظيم:

قال عز من قائل:(وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) الأعراف/128.

وقال:(إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ) النحل/128.

وقال تعالى:(وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) البقرة/194.

فالمتقون هم حزب الله، وحزب الله هم الغالبون، وحزب الله هم المفلحون.. بهذا نطق القرآن الكريم.

هذه بعض الثمرات التي جعلها الله للتقوى، وما لم يتسع له المقام أكثر، وهي جميعاً مما تشتهيه النفوس وتتمناه القلوب، ويجتهد في تحصيله الناس بوسائل غير مضمونة، فيشقون ويتعثرون، ويتقاتلون ويتطاحنون، ومن لم ينتهج التقوى لبلوغ هذه المآرب إن فاز في وقت خسر في آخر، وإن ظفر في الدنيا لم يظفر في الآخرة، لكن الله تعالى من رحمته بنا دلنا على الطريق الهادي إليها، وضمن لنا الفوز بصورة من الصور، وأحياناً بكل الصور، ولذا كان مقتضى الإيمان الجازم بكلام الله، والثقة الصادقة بوعده، أن يلتزم العاقل بتقوى الله. قال الله تعالى:(وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ) البقرة/197.

ومن ادعى الإيمان والعقل ولم يتق الله؛ لا يستطيع إقامة البينة على دعواه؛ لأن العلم بعظمة الله يقتضي التقوى. قال تعالى:(إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ) فاطر/28. والإيمان بلقاء الله يقتضي التقوى. قال تعالى:(وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ) البقرة/281.

حتى الحرص على قرب الأحباب والأصحاب واستمرار الصلة بهم في الآخرة يقتضي تقوى الله. قال تعالى:(الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ، يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ، الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ، ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ) الزخرف/67-70.

بقي أن نقول: من لم يظهر إيمانه في رمضان فمتى يظهر؟! ومن لم يتق الله في رمضان فمتى يتقي الله؟!

والتقوى في رمضان كما تتجلى بالكف عن الطعام والشراب؛ تتجلى في كف اللسان والعين والسمع والجوارح عن المحرمات، وتتجلى في المسارعة إلى الفضائل؛ كقراءة القرآن، وصلاة التراويح، والدعاء في السحر، والتضرع في جوف الليل، والحِلْم في النهار، وإكرام الصائمين، والشفقة على المقصرين والدعاء لهم بالهداية؛ حتى لا يكونوا من وقود النار.

إن رمضان مدرسة لا يستفيد منها إلا من عرف قدرها واغتنم أوقاتها.. إنها مدرسة التقوى.. فطوبى للمتقين!!

رقم المقال [ السابق | التالي ]

اقرأ للكاتب



اقرأ أيضا

المقالات

   رمضان والقرآن

   رمضان يعلمنا قوة الإرادة ومضاء العزيمة

   الاحتياط في مسائل الصيام

   أهمية الوقت في رمضان

   مدارسة القرآن مع جبريل

الفتاوى

   الأصل بقاء الطهارة ما لم يُتيقن غير ذلك

   حكم الجمع بين قضاء رمضان والستة من شوال

   حكم التهنئة بقدوم شهر رمضان

   لا فضيلة في تبليغ الناس بموعد شهر رمضان قبل أوانه

   ليس في السنة صلاة خاصة في آخر جمعة من رمضان


التعليقات



تنبيه: هذه النافذة غير مخصصة للأسئلة الشرعية، وإنما للتعليق على الموضوع المنشور لتكون محل استفادة واهتمام إدارة الموقع إن شاء الله، وليست للنشر. وأما الأسئلة الشرعية فيسرنا استقبالها في قسم " أرسل سؤالك "، ولذلك نرجو المعذرة من الإخوة الزوار إذا لم يُجَب على أي سؤال شرعي يدخل من نافذة " التعليقات " وذلك لغرض تنظيم العمل. وشكرا


Captcha