مقالات
لماذا نذبح الأضاحي في الحج
الكاتب :
سماحة الدكتور نوح علي سلمان رحمه الله
أضيف بتاريخ :
09-11-2009
ملايين المواشي والدواجن تذبح كل يوم من أجل الإنسان، أما الأضاحي فهي تعبير عن محبة الله، ولنبدأ القصة من أولها:
يتفق المؤمنون على أن محبة الله أسمى الفضائل؛ ذلك لأن المحبة في ذاتها هي:الفارق المحسوس بين الأحياء والجمادات، فإن الحيوانات تحب صغارها على الأقل، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ترفع الفرس حافرها عن ولدها خشية أن تصيبه". بل إن الأناني يحب نفسه فيحرص بشكل مفرط على ما فيه مصلحته، وقبل أن ننتقل إلى فقرة وفكرة أخرى نقول: لعل بين الحيوانات نوع من التحابب لا نشعر به؛ فهم من عالم آخر، وليس لنا أن نجردها من فضيلة لأننا لم نشعر بها، وقد علَّمنا ربنا أن لا نظلم أحداً من خلقه فقال لنا نبيه محمد صلى الله عليه وسلم: "إن الله كتب الإحسان على كل شيء".وقال أرباب القلوب النورانية: "وراع في كل خلق وجه من خلقه".
وبما أن المحبة فضيلة فقد تنافس فيها النبلاء؛ ذلك لأنها ليست نوعاً واحداً، بل هي أنواع تتفاوت جلالتها بتفاوت من تعلقت به، فليس حب الطفل لكُرَتِه، كحب الوالد لأسرته، ولا حب الوالد لأسرته، كحب القائد لرعيته، ولا حب القائد لرعيته، كحب النبي لأمته، بل حبه للناس أجمعين. وأين حب الخلق كلهم من حب خالقهم تبارك وتعالى؟!
إن مقدار المحبة يسمو بمقدار المحبوب؛ لأنها تشير إلى نوع من التآلف معه. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الأرواح جنود مجندة، ما تعارف منها ائتلف". وكما أن المعادن الثمينة تقدر بحسب خصائصها وندرتها ونقائها وقربها من الكمال النوعي؛ فكذلك المحبة يتفاوت قدرها بحسب كمال من تعلقت به؛ كماله في ذاته وصفاته وأفعاله، ومعلوم أن الكمال المطلق إنما هو لله تعالى فقط، وهو الذي يخلق الذوات والصفات والأنواع، ويخلق التآلف بينها، ويشير بتآلف نوع من نوع إلى تشابه ما بين النوعين.
ومن هنا يفهم المتدبر لكتاب الله أن ما وعد الله به المؤمنين في الجنة من حور عين، إنما يشير إلى تغيير راق في صفات الإنسان الذي خلق من ماء وطين؛ ليتآلف مع من خُلق من عالم آخر، نسميه العالم الروحاني لنعبِّر عن أنه غير كثيف كثافة المادة، وإلا كيف يكون نعيم بين زوجين غير متآلفين؛ إذ هما غير متشابهين؟!
هذه المفاهيم نشير إليها لنبين سبب اتفاق الحكماء المؤمنين على أن أرقى أنواع المحبة محبة الله؛ لأنها تدل على صفات راقية في المحب، اختارها الله له ليجعله بها محباً له، تبارك وتعالى، هؤلاء المحبون لهم الاحترام والتقدير والتعظيم عند المؤمنين، ولذا يحبونهم ويقتدون بهم لعلهم أن ينالوا من المحبة ما نالوا، أو لعلهم يشفعون لهم عند الله، فيغفر ذنوبهم، ويدخلهم الجنة بمعيتهم، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "المرء مع من أحب".
ومن هنا استغل بعض الناس هذا الشعور الإيماني فادعى محبه الله وتظاهر بها لكسب الاحترام الشعبي، ومناصرة الجماهير وأتباعهم، مع أن المحب الصادق يكتم سره، ويخفي أمره، وحسبه علم من أحبه جل جلاله.
وبالمقابل فإن الله تعالى يحب أن يُظْهر أحبابه الصادقين ليكونوا قدوة لغيرهم، فيسلكوا طريقهم، وليحذر الناس أذاهم فلا ينزل عليهم سخط الله، فقد قال تعالى في الحديث القدسي:"من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب" متفق عليه، ولا أحد يقدر على محاربة الله تعالى، ومن أجل أن يُظهر الله المحبين الصادقين، ويكشف الأدعياء الكاذبين، يعرضهم للامتحان، قال تعالى: (وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ) العنكبوت/3، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يبتلى الرجل على حسب دينه". وسئل النبي صلى الله عليه وسلم: "أي الناس أشد بلاء؟ قال: الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل".
هذه سنة الله في خلقه:جعل بين يدي المكانة الرفيعة عنده وعند أوليائه امتحاناً عسيراً، ولا يحيط العقل البشري بما للمحبين الصادقين من منزلة عند الله، تمتد آثارها في الدنيا والآخرة، وأقول:لا يحيط العقل البشري؛ لأنه لا أحد يدرك الأبعاد الحقيقية لقوله تعالى:(يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ) المائدة/54، فالمحبة شعور لا يحاط به، والمحبوب جل جلاله قال عن نفسه:(ولا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً) طه/110!!
نحن لا نتكلم عن أمور مادية بل عن معنوية حَسْب المحظوظ أن يلاحظها وهو سعيد بتلك الملاحظة؛ لأن الأمر أسمى وأرقى من عالم المادة الذي يُكبَّل الإنسان فيه باعتبارات مادية ولا يدرك ما وراءه إلا إذا خرج من الدنيا وسمع المنادي يقول له:(لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ) ق/22، أي: قوي نافذ، يقال له ذلك وقد مات بصره المادي، وأغمضت عينه المادية، فالحديث إذن عن بصر آخر نسميه الآن بصيرة.
بعد هذه المقدمة نقول:لقد كان إبراهيم عليه السلام يحب الله تعالى، ولذا آمن به، وخالف مجتمعه الذي كان يعبد الطواغيت، ويظلم الناس، وحاول إبراهيم أن ينبه الناس إلى خطئهم، ويهديهم إلى عبادة الله، فكسر الأصنام، ليثبت أنها لا تضر ولا تنفع، ولا تحمي نفسها فكيف تحمي غيرها؟! وتعرض بسبب ذلك إلى محنة عظيمة؛ إذ أُوقِدَتْ له نارٌ هائلة وقُذِف فيها فحماه الله، وجعل النار عليه برداً وسلاماً، فخرج منها، وهاجر إلى الأرض المقدسة، وفي رحلته وقع في محنة أخرى؛ إذ أراد ظالمٌ أن يأخذ منه زوجته، فسلمها الله وسلمه بمعجزة أخرى باهرة، وخرج مرة أخرى من ديار الظالمين.
كانت هذه المعجزات تعبيراً عن محبة الله تعالى لإبراهيم عليه السلام، وكانت على ملأٍ من الناس، وأراد الله تعالى أن يُظهر للناس أن إبراهيم أيضاً يحب الله حباً لا يعادله حبٌّ فامتحنه امتحاناً صعباً: رزقه ولداً بعد أن تقدمت به السنّ، ولم يكن له ولد غيره، ففرح بذلك الولد فرحاً شديداً، وهكذا كلُّ من كان في مثل سنّ إبراهيم، حيث يصبح الولد قرة عين أبيه، لا يشبع من النظر إليه، وضمه إلى صدره؛ إذ يرى فيه امتداداً لعمره الذي أوشكت شمسه أن تغيب، هكذا كان حال إبراهيم عليه السلام مع ولده إسماعيل، فأمره الله تعالى ليختبره أن يحمل ولده الطفل الوحيد وأمه الغريبة إلى وادٍ غير ذي زرع، وأن يضعهما هناك، بداية لقصة جديدة، لا تعلمها الأم المؤمنة، فضلاً عن طفلها الرضيع.
وامتثل إبراهيم أمر الله، وسلَّمت زوجته لقدر الله، ونادته وهو يتركها راجعاً إلى بيته:"يا إبراهيم، من أمرك بهذا؟ قال: الله، قالت: إذن لن يضيعنا". وما ضيعهما الله، يسَّر لهما من يؤنس وحشتهما، ويقدر غربتهما، وكان إبراهيم عليه السلام يتردد عليهما، ويرى إسماعيل يكبر، ويزداد إشراقاً ويملأ نفس أمه وأبيه بهجةً، لقد أصبح يمشي، فجاء الأمر الإلهي إلى الأب المحب لله، المؤثر لطاعته، بأن يذبح ولده اليافع، فلم يتردد ولم يخالف النص الواضح بحجة مراعاة مقاصد الشريعة، ومقتضيات حكمة التشريع، وعدم استيعاب معقولية النصّ، التي يتشدق بها الذين يكادون أن يقولوا: (سمعنا وعصينا)، بل بادر إلى تنفيذ أمر الله، كاشف ولده بالأمر فقال: (يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ) الصافات/ 102، وعرفت الأم، فلم تعترض وآثرت رضوان الله على كل شيء، وحاول الشيطان أن يخذِّلهم؛ فوسوس للأم فرجمته بالحصا، ووسوس للابن فحصبه، ووسوس للأب فرماه بالحصباء، أراد لهم أن يرفضوا حكم الله كما رفض هو من قبل مقدماً استنباطات عقله القاصر على أمر الله العليم الخبير، لقد باء الشيطان بالفشل، وأخذت السكينُ موضعها من عنق إسماعيل، وما بقي إلا أن تقطع ودجيه، لكن حكمة الله تأبى أن تقع النكبة بأسرة تؤثر حكم الله على كل شيء، وتقدم أمر ربها على كل اعتبار، هذه أسرة يجب أن تبقى، ويكون لها ذكرٌ طيبٌ إلى قيام الساعة.
أبت السكين أن تقطع، لقد حال الله بينها وبين ذلك، كما حال من قبل بين إبراهيم والنار، وجاء الأمر الرباني أن يكفّ إبراهيم عما همّ به، وجاء جبريل يحمل كبشاً من الجنَّة مضى عليه آلاف السنين هناك، لم يتغير شبابه، بل ازداد نضارة؛ لأن هذا حال أهل الجنة لا يشيخون ولا يهرمون، إنه الكبش الذي تقرب به إلى الله هابيلُ بن آدم فقبله الله منه؛ لأنه كان مؤمناً مخلصاً، ولم يقبل من أخيه الفاسق الظالم، وعلى ذلك قتل قابيلُ هابيلَ، وحلّت عليه اللعنة وعلى أمثاله إلى يوم القيامة، يحمل من أوزار القتلة بغير حق؛ لأنه أول من سنَّ هذه الجريمة.
مات هابيل شهيداً حياً عند الله، وحُفظ كبشه لهذا اليوم، ليكون فداءً لإسماعيل الطائع لربه، وفرجاً عن إبراهيم عليه السلام وهاجر رضي الله عنها.
انتهت الأزمة بمعجزة ظهر فيها بجلاء أن إبراهيم يحب الله حباً لا يعدله حبّ، فقد أطاعه وأعرض عن هوى نفسه، كما ظهر في المعجزات السابقة أنّ الله يحب إبراهيم، فقد تدخلت إرادته فأنقذته من النار، ومن كيد الأشرار، ومن هنا سُمي إبراهيم: (خليل الله)؛ لأن حبّ الله تعالى تخلل شغاف قلبه، وتغلب على كل نوازع النفس.ولذا سمي: (خليل الله).
نجح إبراهيم في الاختبار، وأثبت أنه يحب الله عندما همَّ بأن يضحي بولده العزيز ليرضيَ اللهَ تعالى، دون أن يناقش، فالقضية عنده كالتالي: الله أمر، الله يجب أن يُطاع.. الحبيب أمر، الحبيب لا يُناقش.. وهذا ما يقوله المؤمنون دائماً:(سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) البقرة/285.
وكان ولا يزال مبدأ في الحياة، أن التضحية علامة الحب الصادق، من أحب ربه يضحي بكل ما يخالف أمر الله، ويتنازل عن رغباته ليرضي الله، ومن أحب دينه يضحي بنفسه في سبيل الله الذي شرع له الدين، ومن أحب وطنه يضحي أيضاً بنفسه ليحمي وطنه، إنها بديهة لا تحتاج إلى برهان، وقد التقطها الشاعر المسلم فقال: "إن المحب لمن يحبُّ مطيع".
نعم، إن المحبة تفجر في الإنسان طاقات كامنة لم يكن يعلم بها صاحبها من قبل، لكن رحمة الله لا تكلف الإنسان مالا يطيق، فقد قال الله تعالى: (لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا) البقرة/286، وما كلُّ الناس مثل إبراهيم، ليتحمل التضحية بولده، ولا كل الأمهات كهاجر تستسلم لأمر الله في ذبح ولدها، ولا كل الأبناء كإسماعيل يجود بنفسه ليرضى الله عنه، لهذا كلّف الله الناس بتضحية من نوع آخر، إنها ذبح المواشي في عيد الأضحى وبها يتحقق ما يلي:
1.تخليد تضحية إبراهيم عليه السلام وأسرته التي لا يطيق غيرها أن يأتي بمثلها، والتي انقلبت بفضل الله من ذبح ولد ينقطع القلب حزناً عليه، ويهز الخوف كل كيان الولد، إلى ذبح كبش تقام مأدبة على لحمه ولا يرهقه الخوف لأنه لا يدري ما يفعل به.
2.تقديم المال بلا عوض دنيوي ليرضى الله، يعني تضحية من نوع يسير، يظهر فيها أن اللهَ أحبُّ إلى صاحب المال من المال، وهذا معنى الصدقة لأنها برهان على صدق الإيمان وصدق المحبة لله.
3.الشكر لله إذ فدى إسماعيل ليكون من ذرية محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم الذي أرسله الله رحمة لكل المخلوقات وقال عنه: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً) الأنبياء/107، وهكذا كان، يرحم كل الخلق، وأوصى بهم خيراً، بل دعا لأعدائه بعد أن أذوه أشد الأذى، وملأ الدنيا عدلاً وقسطاً ورحمة، فكم ستكون خسارة العالم كبيرة لو ذُبح إسماعيل ولم يظهر للوجود محمد صلى الله عليه وسلم؟! إن إنقاذ إسماعيل نعمة تستحق الشكر لله تعالى.
4.الشكر لله تعالى مرة أخرى إذ جعل علامة حبنا له ذبح كبش، وليس ذبح ولد، وإلا لوقعنا في حرج شديد، نحن نحب الله بكل تأكيد، ونطلب الموت عندما ندافع عن دين الله، أما أن نذبح أبناءنا لنبرهن على محبتنا له؟! فهذا شاق علينا جداً، فعندما طلب الله منا أن نذبح كبشاً ونطعمه للناس مجاناً لنعبر عن محبتنا لله كان ذلك امتحاناً سهلاً يجب أن نشكر الله عليه.
5.في الحج يجتمع الآلاف في مكان واحد، وهؤلاء يحتاجون إلى طعام، وإلى إكرام، فهم ضيوف الله، لا يريدون من رحلتهم إلا رضا الله والتعبير عن محبتهم له، فمن قدم لهم الطعام، فقد عبّر عن محبته لله، ومحبته للحجاج، وأفضل الطعام وأيسره في الظرف الذي فيه الحجاج هو اللحم، ولذا كانت الأضاحي سنة شجع عليها الإسلام.
6.إن آلاف، بل ملايين الشياه والبقر والإبل والدجاج تذبح كل يوم وعلى مدار السنة على سبيل التجارة، لتكون غذاءً للناس، لكن المعاني السامية الروحانية التي ذكرناها لا تتوفر إلا فيما يذبح في الحج ويذبح في عيد الأضحى في كل أرجاء العالم الإسلامي، الناس يذبحون ليكسبوا المال، ولا بأس في ذلك، لكنهم يعبرون بذلك عن محبتهم لأنفسهم فهم يجمعون الثروة من أجل رفاهيتهم، والمسلمون يذبحون في عيد الأضحى ليعبروا عن محبتهم لله وشكرهم له، وذلك بالتبرع بلحوم تكلف الملايين من العملات المختلفة، والذين لا يفهمون إلا الكسب المادي الدنيوي قد لا يستوعبون فكرة المسلمين فيما يذبحون في هذا العيد.
إن الجانب الاقتصادي غير مهمل في هذه الأضاحي؛ فمربو المواشي، والتجار، والجزارون، وعمال المسالخ، يعتبرون هذه المناسبة موسماً طيباً لهم، وسوقاً رابحة يكسبون منها الكثير، وينتعش فيها الاقتصاد، لكن الذين بذلوا المال في شرائها يعبرون عن محبتهم لله؛ لأنهم لا يأخذون مقابلها شيئا من الدنيا.
إذن هي ليست مجرد مواشي تذبح، بل هي قرابين يُعبر بها عن معاني سامية أهمها محبة الله تعالى، ومن أجل ذلك لا تقبل فيها أي شاة، بل لا بد أن تكون جيدة مما تحب النفوس، قال الله تعالى:(لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) آل عمران/92، إنها هدية بكل معنى الكلمة، وهي تصل إلى الله تعالى بوصولها إلى ضيوفه في مكة، أو بوصولها إلى عباده المؤمنين في كل أنحاء العالم، هكذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم في تعبير رمزي: "إن الصدقة -يعني المال الذي تتبرع به تعبيراً عن محبتك لله-تقع في يد الله قبل أن تقع في يد الفقير". لكن الهدية المادية التي تصل إلى يد الفقير تفنى عندما يأكلها الفقير، والهدية المعنوية الروحية التي وصلت إلى يد الله يباركها وينميها فيجدها صاحبها يوم حاجته إليها (يوم القيامة) أضعافاً مضاعفة قد تصل إلى سبعمائة ضعف أو تزيد بحسب مقدار المحبة التي جعلت صاحبها يتبرع بها، ولنقرأ بانتباه قول الله تعالى: (لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ) الحج/37، أي أن هذه الذبائح تعبير عن الشعور برقابة الله، وهي تؤدي إلى تجنب ما يغضبه، وعمل ما يرضيه، وبهذا تحصل محبة الله للإنسان، ومحبة الإنسان لله تعالى.
لهذا يجب أن تتوفر في المواشي التي تذبح في الحج وفي عيد الأضحى المواصفات التالية:
1.أن تكون من الإبل أو البقر أو الغنم بكل أنواعها، وهذه هي الأنواع التي جرت عادة الناس بتربيتها؛ لذا يسهل الحصول عليها، والدين الإسلامي مبني على اليسر.
2.لا بد من توفر سنٍّ معينة في هذه المواشي؛ ففي الإبل لا يقبل أقل من خمس سنين، وفي البقر لا يقبل أقل من سنتين، وفي الغنم لا يقبل أقل من سنة؛ لأن هذا سنُّ الكمال في هذه المواشي، ومن جهة أخرى لو سمح بذبح الصغار لكانت خسارة حقيقية في الثروة الحيوانية.
3.لا تقبل في هذه الهدايا المريضة، ولا العرجاء، ولا العمياء؛ أي كل ما فيه نقص في الشكل أو المعنى؛ لأنها هدية وليس من اللياقة أن تكون الهدية ناقصة.
4.يجب أن تذبح هذه الأضاحي خلال أيام عيد الأضحى وهي أربعة أيام؛ يوم العيد وثلاثة أيام بعده؛ لأنها هدية بمناسبة عيد الأضحى فإذا مضت أيام العيد كانت صدقة عامة ولا تسمى أضحية، وضبط العبادات بأوقاتها يعلِّم الناس احترام الوقت في كل شؤون حياتهم.
5.بعض الذبائح لها علاقة بالحج أو العمرة، كما لو كانت تكريماً للحجاج أو المعتمرين، وتسمى هدياً، أو كانت بدل نقص في أعمال الحج أو العمرة، أو كانت بدل مخالفة إحدى تعليمات الحج أو العمرة، هذا النوع من الذبائح يجب أن يكون في داخل حدود الحرم، أي داخل دائرة محيطة بمكة المكرمة، وغالب ما يذبح يكون في الحج، وعلى سبيل الإكرام للحجاج، ويذبح في منى في الأيام التي يقيم فيها الحجاج هناك، وقد كانت هذه الذبائح تتناسب مع حاجة الحجاج في تلك الأيام، ويعمد بعض الفقراء إلى حفظ ما استطاعوا من هذه اللحوم بوسائل بدائية إلى ما بعد موسم الحج، مثل التجفيف على الصخور بأشعة الشمس، ومن هنا سميت الأيام التي بعد عيد الأضحى:(أيام التشريق). ويسمى اللحم المجفف:(القديد)، وكان يشكل مخزوناً غذائياً جيداً لأهل مكة، وهم في وادٍ غير ذي زرع، ومما يلفت الانتباه أنه لا يوجد ذباب في تلك الأيام في منى، ولذا لا يفسد اللحم ولا يتعفن، أثناء تجفيفه.
وفي هذا الزمن كثرت الذبائح، ولم يعد الحجاج يعتمدون عليها في غذائهم أيام الحج، فالكثير منهم يقيم في فنادق فاخرة، تقدم لهم الوجبات المناسبة، والفقراء لا يستطيعون الاحتفاظ بكل اللحوم لكثرتها وقلة إمكانياتهم الفنية في الحفظ، ثم هي فوق حاجتهم على طول العام بكثير، وهذا يعني أن تتلف اللحوم في أماكن ذبحها، ولهذا تدخلت الجهات الخيرية الرسمية فأنشأت مشروعاً تتوفر فيه الأمور التالية:
1.لا داعي لأن يبحث الحاج بنفسه ليشتري شاة يذبحها، بل هناك مؤسسات اقتصادية تُدفع لها قيمة الشاة، فتشتري الأغنام بحسب العدد المطلوب.
2.يُوجد خبراء يفحصون الأغنام للتأكد من مطابقتها للمواصفات المطلوبة شرعاً.
3.توجد مسالخ فيها جزارون محترفون يذبحون الشياه بالنيابة عن أصحابها الذين دفعوا ثمنها.
4. توجد وسائل حديثة لحفظ اللحوم مبردة لتوزع داخل الحرم، وما زاد ينقل إلى خارج الحرم، بل خارج المملكة العربية السعودية، ليوزع على الفقراء في البلاد الإسلامية بالتعاون مع جهات خيرية تحدد هؤلاء الفقراء سلفاً، وهكذا تأتيهم في عيد الأضحى هدايا اللحوم من إخوانهم الذين تشرفوا بالحج، وزاروا بيت الله الحرام، فهي هدية حلّت عليها بركات الديار المقدسة، وليست مجرد لحوم، بل لحوم تذكر بالأخوة الإسلامية، وبركات الديار المقدسة، وتضحية إبراهيم عليه السلام، ولنا أن نتصور عدد المستفيدين من هذه الذبائح وهم:
أ.الحجاج الذين كمل حجهم بالتبرع لإخوانهم بهذه الهدايا.
ب. الفقراء الذين تصل إليهم الهدايا دون أي تكلفة مادية.
ج. مربو الأغنام الذين يجدون لها سوقاً جيدة في هذه المناسبة.
د. التجار الذين يحضرون هذه المواشي من كل أنحاء العالم.
هـ. آلاف العمال والأطباء البيطريون والخبراء الذين يعتبرون هذه المناسبة فرصة طيبة للكسب.
وهكذا تطور مشروع سيدنا إبراهيم من ذبح ولده تعبيراً عن محبته لله، إلى عمل خيري يجتمع فيه المحبون لله ليعبروا عن حبهم له وشكرهم إياه بالتبرع بلحوم المواشي لإخوانهم المحتاجين في كل أنحاء العالم.
ومهما بذل فيه من مال وجهد فهو أقل مما لو ذبح إبراهيم ولده إسماعيل عليهما السلام؛ لأن دم الإنسان عزيز عند الله، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الإنسان بنيان الله، لعن الله من هدم بنيانه". ولذا قال أحد الحكماء المسلمين: "الإنسان أعز ما لدينا".
لو ذبح إسماعيل لكان تعبيراً في يوم واحد فقط عن محبة واحد فقط لله، لكن الله تعالى جعلها مناسبة يعبر فيها الملايين كل عام، عن حبهم لله عز وجل، حباً مطلقاً غير مقيد باعتبارات مادية، بل هو حب روحاني يقول فيه المحبون: "من هناك أتينا، من الجنة وإليها نعود"، محبتنا لله التي نعبر عنها بالطاعة المخلصة للرب الكريم الغفار، هذا مع المحبة لرسول الله محمد صلى الله عليه وسلم الذي أرشدنا إلى كل هذه المعاني السامية فصار المخلوق من طين شبيهاً بالملائكة المقربين.
فسلام الله على سيدنا محمد الذي علمنا هذه المعاني السامية وعلى كل إخوانه من الأنبياء والمرسلين الذين علموا البشر أن سعادتهم في حبهم لله وطاعته.