كتب الأستاذ سمير جنكات مقالاً في جريدة " الرأي " يوم 26/8/2009م مستغربًا الفتوى التي صدرت في إحدى الدول العربية بإباحة الإفطار للرياضيين، وأثنى على دائرة الإفتاء العام في الأردن بطريقة طريفة؛ لأنها تتثبَّت من السائل والسؤال والإجابة، وتتعامل مع الموضوع بالجدية المطلوبة، ولا تسمح بحدوث تأويلات أو تفسيرات خاطئة.
ونحن نشكر الأستاذ سمير على ثنائه وامتداحه للدائرة، ولا نرى أن يتعامل أي طالب علم مع الفتاوى إلا بهذه الطريقة التي تدل على الاهتمام بالفتوى ومعرفة قدرها، فإذا كان المفتي يبلغ عن الله ويوقع عن الله-كما قال العلماء-فيجب أن يتعامل مع الموضوع بمنتهى الجدية، وماذا تقول لمن يوقّع عن مسؤول مهم في الدولة إذا تعامل مع الموضوعات التي يوقع عليها بغير هذه الطريقة، والله تبارك وتعالى أعلى وأجل وأكبر من كل كبير.
لقد أدى التهاون في إصدار الفتاوى إلى استخفاف بعض الناس بالفتوى، وصارت كلمة فتوى تعني الحيلة الشرعية، أو الالتفاف على الأحكام الشرعية، مع أن الفتوى هي حكم الله في الموضوع الذي يسأل عنه، واشتهر على ألسنة البعض أن الفتوى: ما فيه فسحة للناس، أما التشديد فيتقنه كل إنسان.
ولم يدر من يقول هذه الكلمة أن معناها غير ما يريد الناس، إذ المقصود أن على المفتي إذا أخبر أن أمراً من الأمور محرم أن يوجِد البديل له، وهذه سياسة التشريع الإسلامي كله، فما حرم شيئا إلا وأوجد البديل الحلال، وعلى سبيل المثال حرم الربا، وأباح المضاربة والشركة والقرض عند اللزوم، وهكذا بقية الأحكام الشرعية.
إن الساحة الإسلامية تضج اليوم بالعديد من الفتاوى التي تتناقض في بعض الأحيان وتحير المسلمين، وهذا كما يدل على التفاعل في الساحة الإسلامية -كمظهر من مظاهر الصحوة الإسلامية -فإن له أثراً سلبياً على جماهير المسلمين، والمؤلفة قلوبهم منهم، إذ يحتج البعض بأن الأمر محير فينصرف عن الدين كله، وهذا تصرف غير عقلاني، فالخلاف قديم، وهو مظهر من مظاهر حيوية الشريعة الإسلامية، لكن الخلاف يحسم بأحد أمرين:
الأول:إذا تبنى ولي الأمر حكماً شرعياً، فيجب عندئذٍ أن يلتزم الجميع به، ومن هنا قالوا: حكم الحاكم - أي: القاضي - يرفع الخلاف.
الثاني:أن يعرف المسلم من هم أصحاب العلم المتثبتون المشهود لهم بالعلم والحكمة والتروي، فيسألهم ويعرض عما سواهم، عملاً بقوله تعالى: (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) النحل/43، وقوله تبارك وتعالى: (وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ) النساء/83، وعندئذ لا يهمه الأقوال الأخرى ولا يلتفت إليها.
إن أدنى درجات التعامل مع القضايا الدينية أن يتعامل معها المسلم كما يتعامل مع القضايا الطبية، ومن يرضى أن يعالج نفسه أو ولده أو عزيزاً عليه عند كل من يدَّعي الطب؟! بل يتثبت ويبحث عن الخبير المشهود له، وهكذا يكون التعامل مع القضايا الدينية.
إن الذين يبحثون عن الشهرة من خلال إصدار الفتاوى الغريبة الشاذة يجب أن يتذكروا قوله تعالى:(سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ) الزخرف/19، وقوله عز وجل:(وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ ) الزمر/60.
والذين يتهاونون في الفتوى تحببا وتزلفا إلى الناس نذكّرهم بقول الله تعالى: (وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) الأنعام/94، وقوله تعالى : (إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا) الجاثية/19، وهذه الآيات تجعل العالِم يتهيب بل يخاف من الفتوى خشية أن تزلّ قدمه فيهوي في النار، وهذا ما منع الكثير من علماء السلف والخلف من التصدي للفتوى، وإذا ما أُلجئوا إليها استعانوا بالله، وسألوه تبارك وتعالى أن يسددهم مرددين قوله عز وجل:( إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ . اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ)الفاتحة/5-6.
وشكرا للأستاذ سمير، وللسيد خالد القضاة الذي يقول السيد سمير بأننا " مرمطناه قبل أن نفتيه "، والواقع أننا حرصنا على سلامته وسلامتنا بين يدي الله تعالى، إنه الحرص على دين السائل وآخرة المسؤول، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.