مقالات

(وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ) دراسة تفسيرية

الكاتب : المفتي الدكتور عبد الله مقدادي

أضيف بتاريخ : 18-09-2024


(وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ) دراسة تفسيرية

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على المبعوث رحمة للعالمين، سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم- وعلى آله وأصحابه أجمعين وبعد:

 نستذكر في مثل هذه الأيام من كل عام ذكرى مولد خير البرية صلى الله عليه وسلم، فنتذاكر من خلالها خُلقه وشمائله وسيرته ودعوته، ومما استوقفني في هذه المقالة قوله تعالى: (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ) [القلم: 4]؛ وذلك لكثرة ما حملته هذه الآية من دلالات لفظية، ومعانٍ بلاغية، وصور بيانية كان لها الأثر الكبير في تجييش المشاعر، وترسيخ المعاني، وتحريك القلوب، وتقوية اليقين على أن هذا القرآن كلام الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من لدن حكيم حميد.

المعنى العام للآية:

فقد مدح الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بأنه على خلق عظيم ومنهج سليم ودين قويم، فـ (خُلُقٍ عَظِيمٍ)، كما يقول أبو الفرج ابن الجوزي له أكثر من دلالة: "أحدها: دين الإسلام، قاله ابن عباس. والثاني: أدب القرآن، قاله الحسن. والثالث: الطبع الكريم"([1])، قلت: فجميع هذه الدلالات الثلاث السابقة تتفق مع السياق القرآني ومع صفات المصطفى صلى الله عليه وسلم؛ فبعثه الله تعالى ليتمم مكارم الأخلاق بهذا الدين القويم، وهي الدلالة الأولى على معنى أن الخلق العظيم هو الاسلام، كما أن خُلقه صلى الله عليه وسلم كان القرآن على الدلالة الثانية، أي: جئت بقرآن عظيم، وأمّا الدلالة الثالثة؛ فهي كمال أخلاقه وجمال صفاته وحسن شمائله؛ وهذا هو المعنى الشائع بين الناس، أدبني ربي فأحسن تأديبي.

وأمّا صور الخُلق وأنواعه، فإن للخلق صورتان: الخلق الظاهر، والخلق الباطن يعبر به عن الخلق الحسن، وهو أنواع: "الخلق الحسن تارة مع الله، وتارة مع حكم الله، وتارة مع الخلق، فمع الله بالتعظيم والإجلال، ومع حكمه بالصبر في الضراء والبأساء والشكر في الرخاء والامتثال للأوامر والانزجار عن النواهي عن طيب قلب مسارعة وسماحة، وحسن الخلق مع الخلق بث نصفه في المعاملة وحسن المجاملة في العشرة"([2]).

المناسبة بين الآيات:

وأمّا المناسبة القرآنية لهذه الآية بما قبلها، فبعد أن نعتت قريش رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنون وغيرها من النعوت المنزه عنها، جاء الرد من الله تعالى عليهم لا من غيره بدلالة عقلية ونقلية وواقعية يعلمها العالم والجاهل، وذلك لما يحمله الحبيب صلى الله عليه وسلم من رجاحة عقل وفطنة وذكاء، يقول البقاعي: "ولما نفى سبحانه عنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما قالوه، فثبت له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كمال العقل، وكأن المجنون من لا يكون له عمل ينتظم ولا قول يرتبط، فلا يستعمله أحد في شيء ليكون له عليه أجر، أثبت له الأجر المستلزم للعقل فيتحقق إثباته من أحكم الحكماء على وجه أبلغ مما لو صرح به، فقال على وجه التأكيد لإنكارهم له بما ادعوا فيه من البهت"([3]) (وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ* وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ) [القلم:3-4]، فلما كان عمله صلى الله عليه وسلم على أحسن وجه وأكمل صورة كان أجره على أكمل وجه كذلك؛ لأن ذلك لا يتصور إلا من ذي خُلق عظيم ومنهج سليم.

الدلالة البلاغية:

حملت هذه الآية جماً من الدلالات البلاغية والنكت البيانية مع ما فيها من جمال تعبير وروعة تصوير الشيء الكثير، حيث بدأت أولاً بأسلوب التأكيد للدلالة على كمال خُلقه، وللتدليل على علو كعبه، ورفعة شأنه، وسمو مكانته، حيث عطف هذه الآية على ما قبلها من الآيات التي وقعت في جواب القسم الذي يفيد التأكيد، ثمّ الجملة الاسمية وضمير الخطاب الدالان على التأكيد والاستمرار في هذا السياق، ثمّ حرف التوكيد (إنّ) وهو أشهر أدوات التوكيد وأكثرها استعملاً، ثمّ لام الابتداء المزحلقة التي تدخل على الجملة الاسمية؛ لتعطي مزيداً من التأكيد، ثمّ تقديم المجرور، ثمّ وصف الخُلق بأنه عظيم، "فبين أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في أعلاها بقوله مؤكداً لما مضى: {وإنك} وزاد في التأكيد لزيادتهم في المكابرة، فقال: {لعلى خلق} ولما أفهم السياق التعظيم، صرح به فقال: {عظيم)"([4])، فنقول كما قال ذلك الأعرابي حينما قرأت عليه آية الذاريات: (فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ) [الذاريات:23]، "فصاح وقال: يا سبحان الله، من ذا الذي أغضب الجليل حتى حلف، لم يصدقوه بقوله حتى ألجأوه إلى اليمين، قالها ثلاثا وخرجت معها نفسه"([5])، فجاء الخطاب في هذه الآية بالأسلوب نفسه بكل هذه المؤكدات رداً على من نعت رسوله صلى الله عليه وسلم بالجنون، فكانت كل هذه المؤكدات أكبر دلالة على صدقه وعلو مكانته ومنزلته عند الله تعالى، فكيف لا يكون عندكم بهذا القدر والمكانة؟.

ومعلوم أن التأكيد في العربية لا يكون إلاّ للمنكر من باب الوجوب، وللشاك والمتردد استحساناً، فيما يترك التأكيد لخالي الذهن، وقريش كغيرها من القبائل العربية لا تنكر خلق النبي صلى الله عليه وسلم ولا تجحده؛ بل تعرفه وتعرف صدقه ونسبه وأنّه خير شباب مكة وشيبانها، فهي تصفه بالصادق الأمين، وتقول في حقه ما عهدنا عليك كذباً، لا بل أموالهم عنده مودعة، وقد أخر علي بن أبي طالب رضي الله عنه لرد  تلك الأمانات إلى أهلها يوم الهجرة، فما النكتة البيانية واللمسة البلاغية في هذا الخطاب القرآني بهذا الأسلوب من التأكيد حتى أنزل الله تعالى في هذه الآية الكريمة غير المنكر –وهم قريش- منزلة المنكر؟

هناك أسلوب عربي يعرفه أهل البلاغة والبديع هو أن الخطاب البلاغي لا يخرج عن مقتضى الحال ومقتضى الظاهر إلا لِلمسة بلاغية أو نكتة بيانية، كما يقول الهاشمي: "إنّ مقتضى الحال يجري على مقتضى الظاهر، وهذا بالطبع هو الأصل، ولكن قد يُعدل عمّا يقتضيه الظاهر إلى خلافه، مما تقتضيه الحال في بعض مقامات الكلام، لاعتبارات يراها المتكلم"([6])، فمقتضى الظاهر للعيان أنه على خلق عظيم، وقريش وغيرها من العرب تُقر بذلك، فهو صلى الله عليه وسلم الصادق الأمين، فيما مقتضى حالهم –قريش وغيرها من القبائل- هو التكذيب والجحود بالرسالة، فخرج الخطاب الرباني من مقتضى الظاهر إلى مقتضى الحال الذي هم عليه ليناسب حالهم، فناسب التأكيد بكل هذه المؤكدات، فأنزلهم منزلة المكذب المنكر لخُلقه، فلما كذبوا رسالته وجحدوا شريعته أشعر ذلك بعدم كمال خُلقه عندهم، فكيف يقولون بكمال خُلقه ولسان حالهم يكذبون رسالته ويجحدون شريعته؟!! فالظاهر شيء والحال الذي هم عليه شيء آخر مختلف، فجاء التأكيد بكل هذه المؤكدات؛ الجملة الاسمية، وأداة التوكيد، ولام التوكيد، وتقدم الجار والمجرور، ونعت الخلق بالعظيم؛ ليؤكد على كمال خلقه صلى الله عليه وسلم، وليبين دلالة حالهم، فحالهم الانكار والتكذيب وإن كان ظاهرهم على خلاف ذلك.

فمن كان لا ينكر كمال خلق الحبيب صلى الله عليه وسلم فمن باب أولى ألّا ينكر دعوته ورسالته، فمن لم يعتاد الكذب على المخلوق لا يمكن عقلاً أن يكذب على الخالق جل جلاله، ولكنه الكبر والتعنت، فإنكارهم لدعوته وتكذيبهم لرسالته قدح واضح في خُلقه، فالخطاب القرآني في هذه الآية لم يخرج عن مقتضى الحال وإن كان قد خرج عن مقتضى الظاهر؛ لأنّ الخروج عن مقتضى الحال خروج عن البلاغة والفصاحة والبيان، ومن هنا ندرك اللمسة البلاغية من هذا التأكيد في هذه الآية القرآنية، فقد جاء التأكيد مطابقاً تماماً لمقتضى الحال الذي هم عليه من جحود وتكذيب، وإن كان مخالفاً لمقتضى الظاهر؛ لأن الظاهر لا يؤكد له.

فيما جاء وصف الخُلق بصفة العظمة؛ وهذا يدل على كمال خلق سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا يعلم كمال عظمة هذا الخُلق الذي اتصف به الحبيب صلى الله عليه وسلم إلا من اتصف بكمال العلم وهو الحق جل جلاله، ولا يمكن لعقولنا أن تدرك كن هذه العظمة؛ لأن عقولنا قاصرة على الأمور المادية الملموسة فما بالك بالأمور المعنوية غير الملموسة، وقد جمع الله له صلى الله عليه وسلم  كل محاسن الأخلاق المادية والمعنوية، فجاء التعبير القرآني بصفة العظمة لذلك الخلق الكريم منكراً ليفيد العموم والشمول كما يقول العاني: "فلا أعظم منه بدليل التنكير، والوصف يسع جهلهم وغيرهم وهو خير ما أوتي الرجل؛ لأن حسن الخلق جامع لمحاسن الأفعال"([7]).

الدلالة البيانية:

وأمّا اللمسة البيانية في هذه الآية، فقد جاء الجمال القرآني من خلال حرف الجر (على) الذي يفيد الاستعلاء في الأصل، والاستعلاء: إمّا الحقيقي وإمّا المجازي، والاستعلاء الحقيقي نحو قولك: القلم على الطاولة، فهذا استعلاء حقيقي إذ مقر القلم على الطاولة، وأمّا الاستعلاء المجازي نحو قولك: فلان على رأس القبيلة، فهل هو على رأس القبيلة حقيقة أم مجازاً؟ لا شك أنه من باب المجاز، فهو في مقدمتها ومن كبارها منزلةً ومكانةً وقدراً، فالاستعلاء وقع في هذه الآية بقوله تعالى: (لعلى خُلق) الذي أفاده حرف الجر (على) كما أفاد صورة بيانية، والاستعارة مجازية كما قال ابن عاشور: "للاستعلاء المجازي المراد به التمكن كقوله: (أولئك على هدى من ربهم) [البقرة: 5]"([8])، فشبه الخُلق بالجواد والنبي قد علاه وتمكن منه كما يتمكن الفارس من جواده، فوقع هذا الاستعلاء على المجاز والاستعارة، بجامع التمكن والاستقرار، فكان الخلق له مطية يعلوها ويستقر عليها بحيث تمكّن منه حتى صار الخُلق له سجيةً وطبعاً.

ختاماً: لقد جمعت هذه الآية القرآنية بين الإيجاز والإعجاز، ودقة المعنى وسلامة المبنى ما يبهر العقول ويحير الألباب، مع ما وفرته من حيز وتوازن فكري وتلاؤم ذهني في نفس المتلقي ووجدانه، مما أعطى حافزاً للاستقامة، وتناسقاً وترابطاً للعبارة، مع وضوح المعنى والدلالة، فأعطى هذا الكم الهائل من التأكيد مع تلك الصورة البيانية الكثير من الدلالات البلاغية والنكت البيانية؛ وذلك لما بين المؤكد والمؤكد به من تلازم، وما بين المشبه والمشبه به من تماثل، مما منح المفسر للآيات القرآنية قيمة أوسع أثرت تفسيره ووسعت أفق تفكيره، فكان حري به أن يقف مع كل لفظة، وأن يتمعن في كل جملة من هذا الكتاب المعجز. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين

 


([1]) ابن الجوزي؛ أبو الفرج جمال الدين عبد الرحمن بن علي (المتوفى: 597هـ)، زاد المسير في علم التفسير، ت عبد الرزاق المهدي، دار الكتاب العربي، بيروت، الأولى، 1422 هـ، ج، ص319.

([2]) البقاعي إبراهيم بن عمر بن حسن الرباط بن علي بن أبي بكر (المتوفى: 885هـ)، نظم الدرر في تناسب الآيات والسور، دار الكتاب الإسلامي، القاهرة، ج20 ، ص293.

([3])البقاعي، نظم الدرر، مصدر سابق، ج20، ص291.

([4]) البقاعي، نظم الدرر، مصدر سابق، ج20، ص292.

([5])أبو القاسم محمود بن عمرو بن أحمد، الزمخشري جار الله (المتوفى: 538هـ)، الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل، دار الكتاب العربي – بيروت، الثالثة - 1407 هـ، ج4، ص400.

([6]) أحمد بن إبراهيم بن مصطفى الهاشمي (المتوفى: 1362هـ)، جواهر البلاغة في المعاني والبيان والبديع، ت يوسف الصميلي، المكتبة العصرية، بيروت، ص212.

([7]) عبد القادر بن ملّا حويش السيد محمود آل غازي العاني (المتوفى: 1398هـ)، بيان المعاني، مطبعة الترقي، دمشق، الأولى،  1965 م، ج1، ص76.

([8])محمد الطاهر بن محمد بن محمد الطاهر بن عاشور التونسي (المتوفى : 1393هـ)، التحرير والتنوير، الدار التونسية للنشر – تونس، 1984ه، ج29، ص 64.

رقم المقال [ السابق | التالي ]

اقرأ للكاتب




التعليقات



تنبيه: هذه النافذة غير مخصصة للأسئلة الشرعية، وإنما للتعليق على الموضوع المنشور لتكون محل استفادة واهتمام إدارة الموقع إن شاء الله، وليست للنشر. وأما الأسئلة الشرعية فيسرنا استقبالها في قسم " أرسل سؤالك "، ولذلك نرجو المعذرة من الإخوة الزوار إذا لم يُجَب على أي سؤال شرعي يدخل من نافذة " التعليقات " وذلك لغرض تنظيم العمل. وشكرا


Captcha