الهجرة النبوية المباركة ... رحلة بناء الأمة وصناعة تاريخها
الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين، أما بعد:
فإن الهجرة النبوية المشرفة هي رحلة بناءِ أمةٍ انتقلت من ضعف إلى قوة، ومن خوف إلى أمن، ومن شتات إلى وحدة... هي رحلة بناء أمة اصطفاها الله تعالى لتغير مجرى التاريخ، يقودها أعظم قائد في التاريخ، وخير نبي في الوجود صلوات ربي وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين.
والهجرة النبوية المشرفة إعلان ولادة الأمة القوية المنيعة التي ستقود العالم خلال أعوام قليلة بسواعد رجالٍ أخلصوا لله تعالى وشمروا في بناء وطنهم لتحقيق أمجاده، وقد أدرك الصحابة رضي الله تعالى عنهم هذه المعاني العظيمة لرحلة الهجرة المشرّفة، فكانت مبتدأ تأريخهم لجميع أحداث الأمة، وبهذه المعاني الجليلة، تُعلمنا الهجرةُ المشرفة الثقةَ بوعد الله تعالى لعباده الصادقين المخلصين، وأن الله تعالى متمُّ نورِه ومنفذ وعده، فهي بشارةٌ لأهلنا في فلسطين، بأن عاقبة صبرهم ورباطهم نصر بإذن الله تعالى، إذ كانت رحلة ذهاب لأجل العودة، ولكنها عودة الفاتحين المنتصرين المحررين. والهجرة واعظة لنا أن نحافظ على قوة أردننا ومنعته، وأن نقف صفاً واحداً في مواجهة أي خطر يُهدده.
فيرشدنا النبي صلى الله عليه وسلم أن من أهم مقاصد الهجرة بناء الوطن القوي ودولة المؤسسات، وأن بناء الأمة القوية ينطلق من بناء مؤسسات فاعلة تنهض بتطلعات الوطن، وتستشرف مستقبله، وتلبي طموحات أبنائه، فمع وصوله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة المنورة بنى المسجد الذي اعتنى ببناء أركان العقيدة وصياغة الهوية الدينية والتعليم والإعلام والقضاء والشورى والرأي والحكم... بنى صلى الله عليه وسلم المسجد ليحوي هذه المؤسسات الفاعلة الناظمة للمجتمع المرسية لقيمه الناهضة بمقاصده.
كما نتعلم من الهجرة النبوية المشرفة، أن مِن أركان الأمة القوية والأوطان المنيعة والدول الراسخة أن يكون لها اقتصادها القوي المستقل؛ ليكون هذا الاستقلال حصناً في وجه أي تدخل في الإرادة السياسية أو الهوية الثقافية من قبل أعدائها؛ لذلك كان من أول أعمال النبي صلى الله عليه وسلم إنشاء سوق مستقل للمسلمين، ليكسر احتكار اليهود للسوق والمال؛ إذ كانوا يعملون على السيطرة على الناحية الاقتصادية لنشر الفتن والبغضاء بين فئات المجتمع تمكيناً لوجودهم.
وصاغ صلى الله عليه وسلم الوثيقة التي تمثل -في المصطلح المعاصر- دستوراً يبين حقوق وواجبات الدولة والأفراد من حماية وصيانة، ويبين معاني المواطنة ووجوب سيادة القانون.
وقام النبي صلى الله عليه وسلم بالمؤاخاة بين المهاجرين والأنصار لتحل معاني الأمة والرابطة الدينية مكان القيم الجاهلية التي اعتادها العرب من التفاخر السلبي بالآباء والقبائل حتى قال قائلهم:
وما أنا إلا من غزية إن غوت غويت وإن ترشد غزية أرشدِ
وقال الآخر:
ونشرب إن وردنا الماء صفواً ويشرب غيرنا كدراً وطينا
لتحل هذه الرابطة المشكلة لهذه الأمة القائمة على مبدأ: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [التوبة: 71]، وليكون الشعار: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10] وقوله تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا} [آل عمران: 103]. فكانت هذه القيم والمبادئ التي بنى النبي صلى الله عليه وسلم الوطن على قواعدها، وتلك الروح هي التي سرت في مؤسسات دولة النبي صلى الله عليه وسلم؛ فأثمرت ذلك الرقي الحضاري في المجتمع الإسلامي.
وقد خلد الله تعالى حادثة المؤاخاة في القرآن الكريم لتظل شاهداً على هذا الأساس المهم من أسس الحضارة الإنسانية فقال تعالى: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر: 9].
ختاماً نسأل الله تعالى أن يكون هذا العام الهجري الجديد عام خير وبركة على بلدنا المبارك، وعلى عميد آل البيت صاحب الجلالة الهاشمية الملك عبد الله الثاني ابن الحسين حفظه الله ورعاه.