دور علم المنطق في أدلة إثبات وجود الله تعالى
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
على مرّ عصور الفكر والحضارة، كانت تدور المناقشات حول قضية وجود الله تعالى وإثباته بالبراهين والأدلة، ولذلك فإن هذه القضية تشكل جزءًا هامًا من مباحث العقيدة الإسلامية، وصار من الضروري أن ننظر إلى هذه النقاشات بمنظور صحيح معتمد على العلوم العقلية، خصوصاً علم المنطق، لما له من دور حيويّ في تصحيح الحجج والبراهين والنظر في الأدلة الدالة على وجود الله تعالى، وحلّ الشبه التي تطرأ على تلك الأدلة.
وعلم المنطق مهمّ لكل علوم الشريعة المطهرة، ووجه ذلك أنها تتوقف عليه، قال العلامة الفقيه ابن حجر الهيتمي رحمه الله تعالى: "ومن آلات الشرعي من تفسيرٍ وحديثٍ وفقهٍ المنطقُ الذي بأيدي الناس اليوم؛ فإنه علمٌ مفيدٌ لا محذور فيه بوجهٍ، وإنما المحذور فيما كان يُخلط به قبل من الفلسفيات المنابذة للشرائع، ولأنه نحو المعاني، كما أن النحو منطق الألفاظ، ولأنه كالعربية في أنه من مواد أصول الفقه، ولأن الحكم الشرعي لا بد من تصورِه والتصديقِ به إثباتًا أو نفيًا، والمنطق هو المرصد لبيان أحكام التصور والتصديق، فوجب كونه علمًا شرعيًا؛ إذ هو: ما صدر عن الشرع أو يتوقف عليه العلم الصادر عن الشرع توقف وجوب؛ كعلم الكلام، أو توقف كمال؛ كعلم العربية والمنطق، وهذا هو موجب مدح الغزالي له وقوله: (لا ثقة بفقه من لم يتمنطق) أي: من لا تكون قواعد المنطق مركوزةً بالطبع في ذهنه كالمجتهدين في العصر الأول، أو بالتعلم"([1]).
وتكمن هذه الأهمية في أشياء كثيرة تتبين بمزاولة كتب العلماء بعلم المنطق وعلم أصول الدين وعلم أصول الفقه والنحو وغيرها، منها:
1. معرفة الحدود([2]) والتعريفات، فمباحث الكليات الخمس([3]) من المنطق هي التي توضح طريقة ترتيب الحدود والتعريفات والتمييز بين الأشياء، وقد قال العلماء: "إذا اختلفتم فحكموا الحدود".
2. إجراء القياسات الموصلة إلى المطلوبات، ومثال ذلك: قول علماء أصول الدين حين يطلبون إثبات رسالة النبي صلى الله عليه وسلم وما جاء به من دين الإسلام: (الرسول صادق)، ودليله قياس مؤلف من مقدمتين قطعيتين من الشكل الأول، هو: الرسول جاء بالمعجزات، وكل من جاء بالمعجزات صادق، ينتج: الرسول صادق، وكقولنا في إثبات وجوب تعلم المنطق وجوباً كفائياً (المنطق واجب كفائي)، ودليله قياس من الشكل الأول هو: المنطق ضروري لقيام أدلة الشريعة وإثبات وجود الله تعالى، وكل ما هو ضروري لقيام أدلة الشريعة وإثبات وجوب الله تعالى واجب كفائي، ينتج المنطق واجب كفائي.
ومن المعلوم أنّ علم المنطق كان في أول الأمر فرعاً من الفلسفة يدرس العلاقات الصحيحة بين الأفكار والأحكام، ومن أهمّ الأدوات التي يستخدمها علماء الكلام والعقيدة لإثبات وجود الله هي مسائل علم المنطق ومباحثه، ولذلك فإن علم المنطق لم يظلّ فلسفياً كما كان، بل صار علماً شرعياً له كتبه الملخصة والمفصلة، المختصرة والمطولة التي كتبها علماء الشرع الشريف، ونقّحوا فيها كلّ ما عرضه الفلاسفة السابقون، ولذلك صار علماً شرعياً كما ذكر العلامة ابن حجر الهيتمي وغيره من علماء الشرع.
وسأستعرض بعض الجوانب المهمة لعلم المنطق فيما يتعلق بإثبات وجود الله تعالى.
1. دور المنطق في تحليل الحجج:
* يستخدم علماء المنطق أدواتهم لتحليل الحجج التي يقدمها هذا العلم، لإثبات وجود الله، وهذا يشمل الحجج الكونية، والحجج العقلية، والحجج الإلهية.
* يتيح علم المنطق فهمًا أفضل لبنية الحجج وتحليلها بمنطقية أكبر، مما يعزز قوة الدليل على وجود الله.
2. استخدام الأدلة العقلية:
يستخدم علماء المنطق الأدلة العقلية، مثل حجة السببية [لتحليل مفهوم السبب الأول وإظهار أن الكون لا بدّ وأن يكون له سبب خارجي مطلق، وهذا السبب هو الله تعالى]، وحجة الإتقان لإثبات أنّ وجود الله هو التفسير المنطقي لظواهر الكون والحياة.
3. منطق العلاقة بين الأسباب والنتائج:
علم المنطق يستخدم لفهم العلاقة بين الأسباب والنتائج، وهذا يعني أنّ وجود الله يُفسر ما يجري في الواقع من العلاقة بين الأسباب والآثار الناتجة عنها، وهي التي تظهر بمجموعها في الكون وفي حياتنا اليومية، وينتج عن هذا الربط معرفتنا بالخالق سبحانه وتعالى.
وعلى سبيل المثال، من الممكن استخدام منطق العلاقة السببية [4]لإظهار أن وجود الكون نفسه يشير إلى وجود الخالق سبحانه، ويُسهم هذا في تدعيم وجود الله تعالى كنتيجة معرفية بعد التأمل في هذه الأسباب.
4. تأصيل المفاهيم الدينية بالمنطق:
يُستخدم المنطق لتأصيل المفاهيم الدينية بطريقة منطقية وعقلانية، مما يساهم في توضيح أسس الإيمان والعقائد بشكل يمكن فهمه وقابل للتفسير والإقناع لمن لا يؤمن بوجود خالق لهذا الكون.
وهذا الأسلوب في جعل الحجج الدينية مؤسسة على الحجج العقلية يفيد في الدعوة إلى الله تعالى على بصيرة، بحيث يصير الدين قابلاً للإثبات عند جميع الناس، سواء كانوا مؤمنين أو غيرهم، ليكون الإنسان مقتنعاً به دون تقليد أعمى أو تعصب مذموم، وذلك لأن علم المنطق له أهميته الكبيرة في توضيح وتحليل الحجج المتعلقة بوجود الله، ويعتبر أداة قيمة لإقناع اللادينيين والمؤمنين على حدّ سواء في استكشاف هذه القضية العميقة.
5. دفع الشبه والإشكالات عن الأدلة اليقينية:
يتمكن الإنسان الذي يفكر بطريقة منطقية وبأسلوب فكري واضح من الإجابة على الأسئلة التي توجه على تفكيره، ويمكنه أن يدحض الشبه التي يعرضها الخصوم، بينما لا قدرة للإنسان الذي يسوق الأدلة بصورة عشوائية غير معقولة على الإجابة عن الأسئلة والشبهات.
ومن أمثلة التفكير المنطقي الدالّ على إثبات وجود الخالق؛ إذا تأملنا في هذا العالم من حولنا ولاحظنا تغيره من وجود إلى عدم ومن عدم إلى وجود نخلص إلى نتائج حتمية قطعية غير قابلة للاحتمالات:
النتيجة الأولى: الكون وجد بعد عدم.
النتيجة الثانية: الكون لم يوجد نفسَه.
هذه النتائج أثبتنا صحّتها بالحسّ والعقل، وهي أشبه بالضروريات، فهي نتائج حتمية مثبتة واجبة، وليس لها بدائل، أي أنه لا يوجد فيها أي طعن ولا يمكن استبعادها أبداً، وبما أنها ثبتت لدينا فسوف نعتبرها مقدمات لنخلص للنتيجة النهائية: وهو أنه يوجد فاعل موجود قبل وجود الكون، هو صانع العالم وخالقه المستحق للعبادة المتفرد بالألوهية وحده، ذو صفات الجلال والكمال الذي لا شريك له، وهذا هو المطلوب إثباته.
وفي المنطق يجب إذا وصلنا إلى نتيجة مثبتة غير قابلة للنقاش أن نحترمها، لأنه لا يمكن الوصول إلى نتيجة أخرى تناقضها أبداً ما دمنا قد بنينا استدلالنا بناءً صحيحاً.
يبقى السؤال الذي يطرح أحيانا: هل للخالق خالق؟ وهذا سؤال خاطئ منطقياً للأسباب الآتية:
قبول هذا السؤال يوقعنا فيما يسمى بـ "الدور أو التسلسل"([5])، وهما من المغالطات المنطقية المعروفة البطلان، ونحن لا نقبل أي مغالطة منطقية في استدلالنا، لأنها ستفضي بنا إلى أخطاء في النتائج، وقبول هذا السؤال يتضمن القبول بالتناقضات، وهذا لا يصحّ، لكن يجب توضيح وجه التناقض الذي يتضمنه كل من الدور أو التسلسل، كما هو موضح في كتب العقيدة.
إذن، يمكن أن نقول: علم المنطق يمثل ركناً أساسياً كأداة علمية ومعرفية في إثبات وجود الله تعالى ومناقشة أدلة ذلك، ومحاورة المخالفين، وتحليل الحجج والأدلة بشكل منطقي ومنظم، ويسهم في تقييم قوة الحجج وصحة الاستدلالات المستخدمة، وهو وجه من وجوه المجادلة بالحكمة والموعظة الحسنة التي دعا إليها القرآن الكريم، يقول الله تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [النحل: 125].
([1]) الهيتمي، ابن حجر، الفتح المبين بشرح الأربعين: ص573.
[2] الحد: قول دالّ على ماهية الشيء.
[3] مبحث الكليات الخمس من مباحث التصورات في علم المنطق، يفيد في تعريف الأشياء وتصورها، وتمييزها عن بعضها ونسبة بعضها إلى بعض. والكليات الخمس هي: الجنس والفصل والنوع والعرض العام والخاصة. [شرح كتاب إيساغوجي/ ص32].
[4] يعني العلاقة بين السبب والمسبب، ومدى الارتباط بين الفعل والنتيجة.
[5] وَحقيقةُ الدَّوْرِ: تَوَقُفُ كُلُّ مِنَ الشَّيْتَيْنِ عَلَى الآخَرِ ، كَمَا لَوْ فُرِضَ أَنَّ زَيْداً أَحْدَثَ عَمْراً، وَأَنَّ عَمْراً أَحْدَثَ زَيْداً، فَقَدْ تَوَقَّفَ كُلٌّ مِنَ الشَّيْتَيْنِ - وَهُمَا زَيْدٌ وَعَمْرُو - عَلَى الْآخَرِ؛ لِكَوْنِ كُلَّ مِنْهُمَا أَحْدَثَ الْآخَرَ وَيَتَصَوَّرُ أَيْضاً فِي أَكثْرِ مِنْ شَيْتَيْنِ. وَإِنَّمَا كَانَ الدَّوْرُ مُحَالًا؛ لِأَنَّهُ يَلْزَمُ عَلَيْهِ تَقَدَّمُ كُلِّ مِنَ المُحْدَثِينَ عَلَى الآخَرِ وَتَأَخَّرُهُ عَنْهُ (في نفس الوقت)، وَذَلِكَ جَمْعُ بَيْنَ مُتَنَافِيَيْنِ.
وَحَقِيقَةُ التَّسَلْسُلِ: تَتَابَعُ الأَشْيَاءِ وَاحِداً بَعْدَ وَاحِدٍ إِلَى مَا لَا نِهَايَةَ لَهُ فِي الزَّمَانِ المَاضِي، كَمَا لَوْ فُرِضَ أَنَّ زَيْداً أَحْدَثَهُ عَمْرُو، وَأَنَّ عَمْراً أَحْدَثهُ خَالِدٌ وَأَنَّ خَالِداً أَحْدَثَهُ بَكْرٌ، وَهَكَذَا إِلَى مَا لَا نِهَايَةَ لَهُ، فقد تَتَابَعَتْ المُحْدَثُونَ وَاحِدا بعد واحد إلا ما لا نهاية له فِي الزَّمَانِ المَاضِي، وَإِنَّمَا كَانَ التَّسَلْسُلُ مُحَالًا؛ لِأَنَّهُ يَلْزَمُ عَلَيْهِ وُجُودُ حَوَادِثَ لَا أَوَّلَ لَهَا، وَهُوَ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ كُلَّ حَادِثِ لِوُجُودِهِ أَوَّل كَمَا دَلَّتْ عَلَى ذَلِكَ البَرَاهِينُ. المارغني [طالع البشرى/ 115].