التعدي على أهل الاختصاص
لا شك أن لكل إنسان مجاله الذي يختص فيه، ويستطيع أن يقرر فيه الصواب من الخطأ، بناء على مجموعة القواعد والأسس الذي بني عليه تخصصه ومجاله، ويستطيع صاحب الاختصاص أن يقرر من هم أصحاب المرجعية في التخصص، ومن هو حجة فيه، ومن لا يلتفت إليه، وليس هذا لكل أحد، بل لا بدّ أن يكون المختصّ قد تضلّع من تخصصه حتى أمكنه التمييز فيه بين الغث والسمين.
ومن العجائب التي نراها في عصرنا هذا أن أناسا لا دخل لهم في تخصص الآخرين يبدون آراءهم في أهل الاختصاص، وهم ليسوا أهلا لذلك، وهذا الأمر ليس جديدا بل له صور مشابهة في الزمان السالف، وعلى سبيل المثال: نرى من يطعن في الإمام الغزالي مدعيا أنه ليس فقيها، ويُعرض الأمر على السيوطي، فيجيب بجواب شاف، وإليك نص الفتوى والتعليق عليها.
سئل الإمام جلال الدين السيوطي رحمه الله تعالى عمّن قال: "إن أبا حامد الغزالي ليس بفقيه، وإنما كان زاهدا" فأجاب الإمام السيوطي بقوله:
"وقول هذا الجاهل: "إن الغزالي ليس بفقيه" يستحق عليه أن يضرب بالسياط ضربا شديدا، ويحبس حبسا طويلا؛ حتى لا يتجاسر جاهل أن يتكلم في حق أحد من أئمة الإسلام بكلمة تشعر بنقص، وقوله هذه الكلمة: صادر عن جهل مفرط وقلة دين، فهو من أجهل الجاهلين، وأفسق الفاسقين، ولقد كان الغزالي في عصره حجة الإسلام وسيد الفقهاء، وله في الفقه المؤلفات الجليلة، ومذهب الشافعي الآن مداره على كتبه، فإنه نقح المذهب، وحرره، ولخصه في البسيط والوسيط والوجيز والخلاصة، وكتب الشيخين إنما هي مأخوذة من كتبه.
والحاصل أن هذا الرجل الذي صدرت عنه هذه المقالة رجل غلب عليه الجهل، والحمق، والفسق، فالواجب على المحتاط لدينه أن يهجره في الله، ويتخذه عدوا يبغضه فيه إلى أن تأتيه من الله قاصمة تلحقه بالغابرين".
نستفيد من النصّ السابق، أنّ التعدي على العلماء كان موجودا، ولا يزال، فليس أمرا غريبا ولا جديدا، حتى وصل هذا التعدي إلى القمم الشامخة كالإمام الغزالي رحمه الله الذي يعتبر مرجعية في الفقه الشافعي فيتهم بأنه ليس بفقيه، هذه الأفعال من سنن الحياة، كيف لا؟ وقد كان السفهاء يتعرضون للرسل والأنبياء.
ثم يصدر السيوطي أوصافا لمن يمارس مثل هذه الأعمال الشنيعة، تنطبق على من لم ينزل الناس منازلهم، ولم يعرف للعلماء حقهم، فلا شك أنه "جاهل"، حمله جهله و"قلة ديانته" و "حمقه" على الدخول في ساحات "الفسق"، فهو من المنظور الشرعي من العصاة المذنبين، ويجب عليه أن يتوب مما هو فيه.
ويقترح السيوطي حلاًّ لهذه الجرأة بطلبه تأديب المعتدي وتعزيره "ضربا" و "حبسا"؛ ليكون عبرة لغيره، كي لا يتعدّى على العلماء، فيقضي على خصلة سيئة من الممكن أن تسري بين الناس، فيتهجم كلّ جاهل على أهل العلم والاختصاص، وهذا التأديب والتعزير من اختصاصات ولاة الأمور، فهو يشير بذلك إلى واجب الحكومات في الدفاع عن أهل العلم والاختصاص.
وأخيرًا يستثمر السيوطي هذه الفرصة لبيان فضل الإمام الغزالي ويصفه بما هو أهله، من أنه "حجة الإسلام" وأنه "نقّح المذهب الشافعي وحرّره"، وبهذا يعلّمنا السيوطي أن ندافع عن أهل العلم والفضل، وأن نذبّ عنهم أحياء ومنتقلين، وألا نقبل التنقيص من قدرهم، والحط من كرامتهم، وهذا واجب يقوم به أبناء المجتمع.