شهر رمضان.. زلزال التغيير في النفس
كلمة زلزال في القرآن الكريم جاءت في مواضع عدة، وهي تدل على معنيين؛
المعنى الأول: معنى مادي، وهو اضطراب الأرض وتدمير ما عليها، كما في قول الله تعالى: {إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا (1) وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا} [الزلزلة: 1، 2]، قال ابن كثير: "قال ابن عباس: {إذا زلزلت الأرض زلزالها} أي: تحركت من أسفلها" [تفسير ابن كثير 8/ 460].
والمعنى الثاني: معنى معنوي، وهو اضطراب النفس، كما في قول الله تعالى: {هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا} [الأحزاب: 11]، قال ابن كثير: "الزلزال: هو ما يحصل للنفوس من الفزع، والرعب" [تفسير ابن كثير 5/ 393].
وأما كلمة التغيير فقد وردت في القرآن الكريم في مواضع عدة أيضا، ويقصد منها معنى التبديل إما للأسوأ، وإما للأحسن كما في قول الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد: 11]، وهذه الآية الكريمة تؤسس لقاعدة ربانية مهمة في عملية التغيير، وهي أن تغير ما بالناس من حال سيء إلى حال حسن متوقف على تغيير ما في النفس، وهذا التغيير له أسباب كثيرة من أهمها الصيام.
ومن هنا فإن شهر رمضان شهر عظيم، فرض الله تعالى صيامه على عباده؛ لأنه يحدث زلزالاً قوياً في النفس البشرية بسبب قوة تأثيره فيها، ويحدث فيها تغييراً جذرياً يظهر لنا جلياً من خلال أمور منها:
أولاً: الصيام يهدم ما اعتادته النفس من شهوات متعلقة بشهوة البطن من طعام وشراب، وشهوة الفرج من جماع وغيره.
فالصيام "يكسر حدّة الشهوة، ويجعل النفس مصرّفة لشهواتها بحسب الشرع، كما جاء في الحديث: (يا معشر الشباب، من استطاع منكم الباءة فليتزوّج، فإنه أغضّ للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء) متفق عليه، والوجاء: رضّ الأنثيين، وهو كالخصاء مضعف للشهوة الزوجية" [تفسير المراغي 2/ 69].
وليس الغرض من الصيام حرمان الصائم من الطعام والشراب، بل ما يترتب عليه من تهذيب للنفس، وتقويم للسلوك الإِنساني، يقول البيضاوي في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه) [صحيح البخاري، رقم1903]، أي ليس المقصود من شرعية الصيام نفس الجوع والعطش، بل ما يتبعه من كسر الشهوات، وتطويع النفس الأمارة للنفس المطمئنة، فإذا لم يحصل ذلك لا ينظر الله إليه نظر قبول" [منار القاري 3/ 207].
ومن هنا فإن "المقصد الشرعي من الصوم ارتياض النفس على ترك الشهوات وإثارة الشعور بما يلاقيه أهل الخصاصة من ألم الجوع، واستشعار المساواة بين أهل الجدة والرفاهية وأهل الشظف في أصول الملذات".
وبهذه الخاصية يتبين بأن "الصوم وإن كان من مظاهره الجوع والعطش والحرمان، فإنه تدريب على السيادة والقيادة: السيادة على النفس؛ والتحكم في أهوائها ونزواتها، وقيادتها الى ما يصلحها في دنياها، ويعزها في أخراها، وسيادة النفس أرقى أنواع السيادة، وأقسى أنواع المجاهدة، فإذا ما ساد الإنسان نفسه دامت له الدنيا بما فيها ومن فيها، ولم يحل بينه وبين الجنة سوى الموت، يلقى ربه فيفيه بما وعده (إِلَّا الصَّوْمَ فَإِنَّهُ لِي، وَأَنَا أَجْزِي بِهِ) متفق عليه" [صيد الأفكار 2/ 465].
ثانياً: الصيام يبني في النفس عظيم الأخلاق الحسنة والفاضلة، ومنها: تقوى الله تعالى والصبر والحلم والإحسان إلى خلق الله تعالى.
فالصيام يدفع الإنسان إلى الخشية من ربه في السرّ والعلن؛ لأن الصائم لا رقيب عليه إلا ربه، فإذا ترك الشهوات التي تعرّض له من أكل نفيس، وشراب عذب، وفاكهة يانعة، وزوجة جميلة، امتثالاً لأمر ربه، وخضوعاً لإرشاد دينه مدة الصيام شهراً كاملاً، ولولا ذلك لما صبر عليها وهو في أشدّ الشوق إليها، لا جرم أنه بتكراره ذلك يتعوّد الحياء من ربه، والمراقبة له في أمره ونهيه، وفي ذلك تكميل له وضبط للنفس عن شهواتها، وشدة مراقبتها لبارئها. ومن كملت لديه هذه الخلّة لا يقدم على غشّ الناس ومخادعتهم، ولا على أكل أموالهم بالباطل، ولا على هدم ركن من أركان الدين كالزكاة، ولا على اقتراف المنكرات، واجتراح السيئات، وإذا ألمّ بشيء منها يكون سريع التذكر قريب الرجوع بالتوبة الصحيحة كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} [الأعراف: 201] [تفسير المراغي 2/ 69].
ومن هنا يعلم أن الصيام يبعث على الإيمان الصادق بالله تعالى، ويرقق القلوب، ويصفي النفوس، ويعين على خشية الله تعالى، ولهذا استعان به الأنبياء في تحقيق مآربهم، والأولياء في تهذيب نفوسهم، والخاصة في شفاء قلوبهم، والعامة في شفاء جسومهم [أوضح التفاسير 1/ 33].
ختاماً: ينبغي على كل مسلم أن يستغل شهر رمضان في طاعة الله تعالى، وأن نغتنم أيامه في طلب رحمة الله تعالى ومغفرته ورضوانه قبل الفوات، وفي هذا يقول ابن الصباغ الجذامي -كما في [صيد الأفكار 2/ 464]-:
هذا هلال الصوم من رمضان بالأفق بان فلا تكن بالواني
وافاك ضيفا فالتزم تعظيمه واجعل قراه قراءة القرآنِ
صمه وصنه واغتنم أيامه واجبر ذما الضعفاء بالإحسان
واغسل به خطّ الخطايا جاهدا بهمول وابل دمعك الهتّان
لا غرو أن الدمع يمحو جريه بالخدّ سكبا ما جناه الجاني
للَه قوم أخلصوا فخلّصوا من آفة الخسران والخذلان