الاقتصاد الإسلامي وارتباطه بمشروع الإسلام الحضاري: التجربة الماليزية
الإسلام شريعة الله الخاتمة لجميع الشرائع، والله أرسل نبيه سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ليبشر العالم بهذا الدين الصالح لإصلاح كل زمان ومكان، قال الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [سبأ: 28] ، وقال الله تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} [الأعراف: 158]، والقرآن الكريم جاء متناسقاً تمام التناسق مع طبيعة هذا الدين الرباني، والذي يتصف بالشمولية والتوازن والواقعية، قال الله تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} [النحل: 89].
وتبرز شمولية القرآن لنواحي الحياة ــــــالدينية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية وغيرهاـــــــ من خلال نصوصه الكلية والجزئية، فبعض الأحكام التي لا تتأثر بتغير الزمان والمكان والأشخاص تم تبيانها بشكل تفصيلي لا يقبل النقض ولا التغيير ولا التبديل، كما في نصوص الميراث والحدود وغيرها، أما القضايا العامة التي تتغير بتغير الزمان والمكان والأشخاص فتم وضع معايير عامة، وضوابط كلية؛ لتحكم تطبيقها والعمل بمقتضاها، كما في المعاملات المالية والأمور المتعلقة بالاقتصاد والسياسة وغيرها من القضايا المعيشية المرنة، وجاءت السنة النبوية الشريفة مفصلة لذلك ومؤكدة عليه، كما أن هدي النبي صلى الله عليه وسلم في التعامل مع القضايا السياسية والاقتصادية والاجتماعية المختلفة، يمثل لنا منهجاً إسلامياً مرناً ومتوازناً، ويشكل أمامنا نموذج قدوة في التعامل مع شؤون الحياة بين الثوابت والمتغيرات.
فالإسلام جاء لتأسيس مشروع حضاري إنساني يهدف إلى البناء لا الهدم، إلى الجمع لا الفرقة، إلى التمدن لا التخلف، يحترم عقل الإنسان ويعطيه حريته، ويضبطهما بعقال الدين ورباط الأخلاق والقيم.
وفي واقعنا المعاصر في ظل الانخراط في نماذج حضارية لدول مختلفة يتم فيها الاندماج الكامل والتقليد الأعمى مع التجرد عن مبادئ حضارتنا الإسلامية في كل مجالات الحياة، حتى قد يتبادر للأجيال القادمة من المسلمين عدم صلاحية ديننا لإقامة حضارة مدنية متقدمة، وأنه مجرد طقوس دينية وترانيم وتسابيح تعبدية، وفي غياهب هذا التيه، وفي جوانب هذا الضياع، نحتاج إلى تجربة معاصرة تنقض هذا الفهم، وتثبت بالتطبيق العملي قدرة الإسلام على النهوض بالحضارة الإنسانية في ظل احترام الحضارات الأخرى من خلال العلم والعمل والقيم.
مشروع الإسلام الحضاري (Civilizational Islam) مشروع تم طرحه من قبل رئيس الوزراء الماليزي أحمد بدوي عام 2003م بهدف العودة بالمجتمع الماليزي إلى حقيقة الإسلام وجوهره، والتركيز على القيم الأخلاقية والاجتماعية، وتوظيفها في عملية تنمية رأس المال البشري للوصول إلى تنمية مستدامة في الدولة الماليزية، علما بأن روح المشروع تم العمل بمقتضاه منذ الخمسينات بعد الاستقلال مباشرة[1].
قدمت التجربة التنموية الماليزية دليلاً قاطعاً على ضرورة الربط بين الجانب الثقافي والقيمي وبين أي مشروع حضاري تنموي سياسي أو اقتصادي أو اجتماعي.
ماليزيا بلد كان يعاني من مشاكل كبيرة في البناء الفكري والحضاري، وفي التعددية العرقية وكيفية إدارتها، وفي النواحي الاقتصادية والسياسية، فتم إعادة هيكلة المجتمع الماليزي عبر خطط واستراتيجيات لتخفيض الفجوات العرقية بين أفراده، كما تم ترجمة القيم الإسلامية إلى خارطة طريق تهدف إلى الارتقاء بالمجتمع الماليزي ليصير في مصاف المجتمعات التي تحترم الوقت وتعرف قيمته، والتي تعمل بأمانة وإخلاص وجهد وإتقان، وليشكلوا نواة لدولة حضارية قوية منافسة في جميع المجالات وفي شتى النواحي.
كما تم هيكلة الاقتصاد الإسلامي في ماليزيا من خلال إدارته ومن خلال توظيف جميع القيم الإسلامية لتشكل دافعاً إيجابياً للنهوض بالمجتمع الماليزي، فتأسس صندوق الحج ليشكل رافداً استثمارياً للدولة الماليزية، والذي يعتبر من أكبر المؤسسات التعاونية الناجحة في ماليزيا، ثم تم العمل على إرساء المؤسسات الاقتصادية الإسلامية في إطار محاكاة القيم الإسلامية، ومن أهم هذه المؤسسات: البنك الإسلامي (BERAD)، والجامعة الماليزية الإسلامية العالمية (IIUM) وغيرها[2].
وإذا أردنا أن نوجز الحديث عن مشروع الإسلام الحضاري، فأجمل ما يعبر عن ذلك كلمات الدكتور أحمد بدوي رئيس الوزراء الماليزي سابقا: "إن الإسلام الحضاري ليس ديناً جديداً ولا مذهباً فقهياً جديداً، ولكنه محاولة ورؤية لإعادة الأمة إلى قواعد الإسلام الصحيح المنبثقة من القرآن والسنة النبوية، وإذا ما تمت ترجمتها بشكل صحيح وواضح، وتم فهمها فهماً صحيحاً فلن يحيد بالمسلمين عن الطريق الصحيح... إن الإسلام الحضاري جاء لنهضة وتقدم المسلمين في الألفية الثالثة، ومن أجل المساعدة على دمجهم في الاقتصاد الحديث، كما أنه يصلح أن يكون الترياق للتطرف والغلو في الدين؛ وذلك لأنه يشجع على التسامح والتفاهم والاعتدال والسلام..."[3].
[1] نشر المركز العربي الديمقراطي للدراسات الاستراتيجية والسياسية والاقتصادية في برلين عاصمة ألمانيا عام 2019م كتابا جماعيا بعنوان (أبعاد التجربة التنموية في ماليزيا: دراسة تحليلية في الخلفيات، الأسس والآفاق)، وقد حوى الكتاب مجموعة من الأبحاث القيمة التي كشفت عن التجربة التنموية في ماليزيا بوضوح، وبينت محاور النهضة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية في ماليزيا وارتكازها على المشروع الإسلامي الحضاري.
[2] بتصرف من بحث: "مشروع الإسلام الحضاري والتجربة التنموية في ماليزيا: دراسة في دور القيم الإسلامية في التنمية"، للباحث: بن حته إلياس، جامعة الجزائر، من ضمن أبحاث الكتاب الجماعي الذي أصدره المركز العربي الديمقراطي للدراسات الاستراتيجية والسياسية والاقتصادية في برلين، الطبعة الأولى، 2019م.
[3] المرجع السابق ص 16-18