تنوع المدارس الفقهية رحمة
اقتضت حكمة الله سبحانه وتعالى أن جعل فهوم البشر متعددة متنوعة، فلم يجمع البشر على فهم واحد ولا على طريقة واحدة، فجعلهم شعوباً وقبائل، كما قال سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} [الحجرات: 13]، وقال سبحانه: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} [هود: 18-19]. قال بعض المفسرين أنّ اللام هنا "لام الصيرورة" وليست "لام الغاية" أي خَلَقَهم ليصير أكثرهم إلى الاختلاف أي أن عاقبة خلقهم هي الاختلاف.
ومما أنعم الله به علينا أن جعل غالب النصوص الشرعية الكتاب الكريم والسنة النبوية المطهرة نصوصاً ظنية الدلالة قابلة لاستنباط الأحكام منها بين علماء المسلمين، فلم يجمعهم على فهم واحد أو على قول واحد، وذلك أدى إلى نشوء مدارس فقهية متعددة قائمة على أصول علمية دقيقة في كيفية التعامل مع النصوص الشرعية، فإجماعهم حجة قاطعة واختلافهم رحمة واسعة.
يقول الحافظ ابن رجب الحنبلي: "فاقتضت حكمة الله سبحانه أن ضبط الدين وحفظه بأن نصب للناس أئمة مجتمعاً على علمهم ودرايتهم وبلوغهم الغاية المقصودة في مرتبة العلم بالأحكام والفتوى من أهل الرأي والحديث"[1].
هناك دعوتان يدعيها ممن ينقم على المذاهب الفقهية، الأولى: التعصب المذهبي عند المدارس الفقهية الأربعة، والثانية: عدم صلاحية المذاهب الأربعة لكل زمان ومكان.
الدعوى الأولى: التعصب المذهبي
التعصب المذهبي: هو اعتقاد المقلِّد أن مذهب إمامه هو الحق وغيره من المذاهب على خطأ، ويعادي ويخاصم كل من خالف مذهبه، وهذا التعصب قد ذمته الشريعة الإسلامية وذمه العلماء أيضاً أتباع المذاهب الأربعة.
فدعوى التعصب لأتباع المذاهب الفقهية والانتصار لأقوال أئمتهم على حساب الحق، وعدم قبول الأدلة الشرعية من الطرف الآخر؛ يدل على عدم الانصاف وقلة الاطلاع؛ لأن هنالك فرقاً بين ما هو تقعيد علمي للمسائل، وبين ما هو واقع في سلوك بعض الأفراد في بعض النواحي أنه لا يقبل إلا ما يقلده، فهذه السلوكيات التي ظهرت عبر التاريخ مما ذمه العلماء وأنكروه وهو التعصب السيئ الذي لا وجه له في الدين.
فالحقيقة أن من نظر داخل البيت المذهبي من المذاهب الفقهية من حيث التقعيد العلمي لا يجد هذا التعصب المذموم، بل يجد ما هو شائع عندهم؛ أنه لا محاباة في الدين لأيّ أحد وإن بلغ الغاية القصوى في الاجتهاد؛ وهذه من أعظم مزايا الأمة حتى لم يتركوا لقائل قولاً فيه أدنى دخل إلا بينوه.
وإليك كلام الإمام الفقيه أحمد بن حجر الهيتمي: "عدم المحاباة في الدين حتى لأكابر المجتهدين هو دأب ساداتنا العلماء العاملين كما يعلمه من وقف على النهاية –أي نهاية المطلب- وأحاط بقولها: "هذه زلة من الشيخ"[2]، مع بلوغه في الاجتهاد والولاية الغاية ... ومن هنا قال بعض أكابر أئمتنا أن عدم محاباة العلماء بعضهم لبعض من أعظم مزايا هذه الأمة التي أعظم الله بها عليهم، فلم يتركوا لقائل قولاً فيه أدنى دخل إلا بينوه، ولا لفاعل فعلاً فيه تحريف إلا قوّموه، حتى اتضحت الآراء، وانعدمت الأهواء، ودامت الشريعة الواضحة البيضاء على امتلاء الآفاق بأضوائها، وشفاء القلوب بها من أدوائها مأمونة من كيد الحاسدين وسفه الملحدين".[3]
الدعوى الثانية: عدم صلاحية المذاهب لكل زمان ومكان
المذاهب الفقهية الأربعة عبارة عن مدارس علمية عظيمة مبنية على قواعد وأصول محكمة صالحة لكل زمان ومكان، وقد وضع علماء المذاهب طرق الاجتهاد للوصول إلى الحكم الشرعي بعلم خاص أسموه "أصول الفقه"، من هذه القواعد: الأصل في الكلام الحقيقة ولا يعدل عن الحقيقة إلى المجاز إلا بقرينة، يقدم النص من الكتاب والسنة على القياس، الأمر المجرد يدلُّ على الوجوب، والنهي المجرد يدلُّ على التحريم، والنهي يدل على فساد المنهي عنه...الخ
فالاجتهاد واجب في كل عصر منذ عصر الصحابة إلى يومنا هذا؛ وذلك أنَّ النصوص محصورة والوقائع غير محصورة فيستدعي ذلك إلى الاجتهاد، قال الإمام الجويني: "القياس مناط الاجتهاد، وأصل الرأي، ومنه يتشعب الفقه وأساليب الشريعة، وهو المفضي إلى الاستقلال بتفاصيل أحكام الوقائع مع انتفاء الغاية والنهاية، فإنَّ نصوص الكتاب والسنة محصورة ... ونحن نعلم قطعا أن الوقائع التي يتوقع وقوعها لا نهاية لها، والرأي المبتوت المقطوع به عندنا أنه لا تخلو واقعة عن حكم الله تعالى"[4].
فدعوى أنَّ الالتزام المذهبي يؤدي إلى تعطيل الفكر الاجتهادي، وإلى الجمود الفكري في عدم موائمة الواقع المعاصر، وعجز عن استيعاب واحتواء النوازل المستجدة؛ فهو يدلُّ على عدم اطلاع ومعرفة بكتب المذاهب الفقهية؛ فمن نظر في أحوالهم وقرأ كتبهم سيدرك حجم الجهد العقلي الذي قام به علماء كل مذهب، وسيعلم قدرة العلماء على الاجتهاد ومعرفة أحكام النوازل المستجدة في كل عصر وتفريعها على أصول صحيحة.
والأمثلة على ذلك كثيرة، سأذكر ثلاثة أمثلة ليتبين أن المذاهب الفقهية ليس عبارة عن تاريخ أو مدونة وغبر عليها الزمان، بل هي مدارس علمية قائمة على أصول وضوابط تصلح لكل زمان ومكان.
المثال الأول: جواز القصر من قطع مسافة القصر بطائرة، أو باخرة، أو غيرها من الوسائل الحديثة، قال الإمام النووي رحمه الله: "وأما كون السفر طويلاً فلا بدَّ منه –أي: لجواز القصر- ثمانية وأربعون ميلاً بالهاشمي، وهي ستة عشر فرسخا... والمسافة في البحر مثل المسافة في البر وإن قطعها في لحظة"[5]. أفاد النص أنَّ من قطع مسافة القصر بطائرة، أو قطار، أو باخرة ولو في لحظة جاز له القصر.
المثال الثاني: صحة إجراء العقود المالية عن طريق الهاتف، قال الشيخ سليمان البجيرمي رحمه الله: "الثاني –أي من شروط صحة البيع- أن يتلفظ بحيث يسمعه من بقربه، وإن لم يسمعه صاحبه بأن بلغه ذلك فوراً، أو حملته الريح إليه فقبل"[6]. قوله (أو حملته الريح) يفيد صحة إجراء العقود بوسائل الاتصال الحديثة التي يسمع بواسطتها المتعاقدان كلامهما.
المثال الثالث: لا حرج في صنع الحلويات على شكل مجسمات، قال الإمام الشبراملسي رحمه الله: "الصور التي تتخذ من الحلوى لترويجها، فلا يحرم بيعها ولا فعلها، ثم رأيت الشيخ عميرة نقل ذلك عن البلقيني"[7]. فيدل النص على جواز صناعة الحلويات أو قوالب الكيك وما شابه ذلك من المأكولات على صورة مجسمات.
فالحاصل أنَّ اتباع المذاهب الفقهية هو اتباع للاجتهاد والبحث والنظر؛ لأنه لا يجوز خلو حادثة عن حكم الله تعالى؛ فمن نظر في كتبهم سيجد القدر الكبير من المباحث والفتاوى والمسائل المستجدة في عصرهم، وسيعلم السعة في أقوالهم، واحترامهم لأقوال الآخرين، فالالتزام المذهبي منهج يثبت دعائم الاستقرار الفقهي، ويخرج المتلقي عن دائرة الاضطراب عند بحث المسائل الفقهية. والله تعالى أعلم.
[1] ابن رجب، عبد الرحمن بن أحمد، الرد على من اتبع غير المذاهب الأربعة، مركز المربي، ص26.
[2] أي قول الإمام الجويني في والده أبو محمد هذه زلة.
[3] ابن حجر، أحمد بن علي، الفتاوى الفقهية الكبرى، ج3 ص33.
[4] الجويني، عبد الملك، البرهان في أصول الفقه، ج2 ص3.
[5] النووي، يحيى بن شرف، روضة الطالبين، ج1 ص385.
[6] البجيرمي، سليمان بن محمد، تحفة الحبيب على الخطيب، ج3 ص12.
[7] الشبراملسي، نور الدين، حاشية الشبراملسي على نهاية المحتاج، ج3 ص396.