دائرة الإفتاء والإعلام غير المسؤول
كان السؤال في أحد استطلاعات الرأي الذي أجراه مركز بحثي في بلد من بلاد المغرب الإسلامي -قبل حوالي سنتين- يدور حول دار الفتوى الأكثر موثوقية من وجهة نظر المجتمع، فكانت نتيجته ترجح دار الإفتاء الأردنية، وقد كتب عدد من الفضلاء من علمائهم في حينها يشيدون بهذه النتيجة، ويؤيدون هذه الشهادة الشعبية بشهادة علمية.
تذكرت هذا ونحن نشاهد اليوم محاولات غير بريئة تقودها أبواق إعلامية عرف عنها عدم ارتياحها للفضيلة وما يدل عليها من قول وعمل الإساءة لمكانة هذه المؤسسة، وقد اعتمدت الاستهزاء من خلال بتر فتاوى دائرة الإفتاء، وإظهارها في مظهر يثير التندر.
وواقع الحال أن الاستهزاء سلاح قديم جديد سجله القرآن على قوم نوح عليه السلام: (وكلما مرّ عليه ملأ من قومه سخروا منه)، وسجله كذلك بوصفه منهجا منظما في مواجهة دعوات الخير والإصلاح والحكمة، من قبل من لا يهيئ لهم الإصلاح مناخا مناسباً ليمارسوا أنماط معيشتهم الخاصة وقيمهم التي يستقونها من خارج وسطية الإسلام ورسوخ ثوابته وأحكامه وآدابه.
كما سجله التاريخ في مسيرة الشعوب نحو التخفف من سطوة رجال الدين -التي تصح عندهم ولا تصحّ في الوضع الإسلامي- فظهر (الأرجوزات) والـ (مشخصاتية) والكتاب الهزليون، وأبرزوا شخصية رجل الدين والمقولات الدينية في صورة تثير الضحك، وكانت هذه أولى الخطوات الفعالة في المجتمعات الغربية للتخلص من بعض القيم الدينية في طريق الحياة الفردية بصورتها الحالية.
هنا لابد من البيان أن حكم اجتزاء الفتوى لعرضها في صورة تقبل السخرية هو من غير شك مندرج تحت الاستهزاء بالدين؛ وخطورته على الإيمان لا تحتاج كثير بيان.
ولكن من جهة استباحة الهجوم على مؤسسة دينية وطنية، تحظى باحترام شعبي وعلمي على امتداد العالم الإسلامي، فإن محاولة النيل من هذه المؤسسة العريقة التي تقودها شخصية تحظى بالمصداقية ويتصف فريقه من المفتين والباحثين بالقدرة العلمية والخبرة الاجتماعية، والكفاءة في تنظيم وإصدار الفتوى من جهة وتنزيلها على واقع السائل والمجتمع من جهة أخرى، هذه المحاولة للإساءة هي خصومة غير شريفة مع منجزات الوطن الحقيقية، كما إنها تعبر عن رغبة بائسة بهز الثقة بمصدرية الفتوى في هذا البلد، ممثلةً بمؤسسة الإفتاء، التي أثبتت غير مرة انحيازها للوطن من خلال انحيازها للقيم، ووقوفها إلى جانب وسطية الإسلام من خلال منع التلاعب بثوابته الجامعة، ومساندتها للحرية من خلال تحديد شكلها الذي تتميز وتتحقق به وفق توازن دقيق ونظرة فقهية تنتمي إلى عمق الفقه الإسلامي بقدر ما تلبي حاجة العصر المستمرة وهو أمر يعرفه المطلع ولا يعرفه أنصاف المثقفين الذين يضعفون المشهد الإعلامي والثقافي بقدراتهم دون المتواضعة فكرا وأداءً.
وهؤلاء قد لا يعلمون -وأحسبهم لا يدركون- أنهم بموقفهم غير المسؤول، وغير الواعي تجاه مؤسسة الفتوى، يشجعون على فوضى الفتاوى، التي كادت تتسبب بكوارث وطنية في مناسبات ومواقف مختلفة أدى بعضها إلى خلل طال النسيج الاجتماعي والأبعاد الاقتصادية على نحو مزلزل وما يوم البورصة ببعيد. فهل إلى وقفة حازمة في وجه هذه العبثيات الصبيانية من سبيل؟