ممتنون لرسول الله صلى الله عليه وسلم
تباعد علينا الزمان برسول الله صلى الله عليه وسلم، ومع مرور أكثر من ألف سنة على ميلاده صلى الله عليه وسلم إلا أن حبنا له ما زال وكأننا معه، ونعيش في عصره وزمانه، وتطل علينا في كل عام ذكرى مولده الشريف؛ لتجدد فينا معاني الحب؛ ولنتأمل في فضله علينا، ففضله عظيم لا يعلم قدره إلا الله، ومن لا يشكر الناس لا يشكر الله، فهو أكثر من له حق وفضل علينا، وهو أحق من نشكره صلى الله عليه وسلم بعد الله تعالى، وحالنا معه كحال صحابته رضوان الله عليهم، فقد خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما على حلقة من أصحابه فقال:
(مَا أَجْلَسَكُمْ؟)
قالوا: جَلَسْنَا نَدْعُو اللَّهَ وَنَحْمَدُهُ عَلَى مَا هَدَانَا لِدِينِهِ، وَمَنَّ عَلَيْنَا بِكَ.
قال: (آللَّهُ مَا أَجْلَسَكُمْ إِلَّا ذَلِكَ؟)
قالوا: آللَّهُ مَا أَجْلَسَنَا إِلَّا ذَلِكَ.
قال: (أَمَا إِنِّي لَمْ أَسْتَحْلِفْكُمْ تُهَمَةً لَكُمْ، وَإِنَّمَا أَتَانِي جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَأَخْبَرَنِي أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يُبَاهِي بِكُمُ الْمَلَائِكَةَ) [أخرجه النسائي].
فها هم الصحابة رضوان الله عليهم يعقدون مجلسا لشكر الله على نعمة الإسلام وعلى نعمة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وحق علينا دائما أن يلازمنا الشعور بمنة الله تعالى علينا بمبعث سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم والشعور بالامتنان لشخص سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا الشعور ليس واجبا فقط على أمة الإسلام بل هو واجب على جميع الأمم وعلى جميع الخلائق، فهو رحمة الله للعالمين، والعالمين هم كل ما سوى الله، فحق على العالمين أن يمتنوا لسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فالنفوس بطبعها جبلت على حب من أحسن إليها أو أسدى لها معروفا حتى لو كان هذا المعروف يسيرا، فكيف إذا كان هذا المعروف هو رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
فلماذا نحن ممتنون لسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
لأنه جاء ليدلنا على طريق الله ويهدينا إلى الصراط المستقيم؛ لقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا . وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا} [الأحزاب: 45، 46].
فقد جاء صلى الله عليه وسلم لنا بالهدى ليخرجنا من ظلمات الجهل والجاهلية إلى نور الإيمان.
فلولا رسول الله صلى الله عليه وسلم ما عرفنا الله تعالى، وهذه المعرفة كانت سبباً للأمان في الدنيا والآخرة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم كان أماناً للمؤمنين به ولغيرهم، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فِي قَوْلِهِ: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} قَالَ: (مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ تَمَّتْ لَهُ الرَّحْمَةُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ عُوفِيَ مِمَّا كَانَ يُصِيبُ الْأُمَمَ فِي عَاجِلِ الدُّنْيَا مِنَ الْعَذَابِ مِنَ الْخَسْفِ وَالْمَسْخِ وَالْقَذْفِ فَذَلِكَ الرَّحْمَةُ فِي الدُّنْيَا) [الشريعة للآجري].
أما من آمن به فإن الله هداه به، وأدخله بالإيمان به، وبالعمل بما جاء به من عند الله الجنة. وأما من لا يؤمن به فإنه دفع به عنه عاجل البلاء الذي كان ينزل بالأمم المكذّبة رسلها من قبله، فالناس كانوا ثلاثة أصناف: مؤمن، ومنافق، وكافر، وكان صلى الله عليه وسلم رحمة لهؤلاء جميعاً. رحمة للمؤمنين، حيث هداهم طريق الجنة، ورحمة للمنافقين، حيث أمنوا القتل، فحصل لهم بإظهار الإيمان به حقن دمائهم وأموالهم وأهليهم واحترامها، وجريان أحكام المسلمين عليهم. وأما الأمم النائية عنه: فإن الله رفع برسالته العذاب العام عن أهل الأرض فأصاب كل العالمين النفع برسالته.
ممتنون لرسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه جاء بمكارم الأخلاق، بعد أن اختلط حسنها مع قبيحها وطغى بعضها على بعض، فجاء سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ليميز خبيث الأخلاق من طيبها، وليهذب هذه الأخلاق من الغلو والتفريط، يقول صلى الله عليه وسلم عن نفسه: (بُعِثتُ لأُتَمِّمَ مكارم الأخْلاقِ) [موطأ مالك]، ويوضح ذلك بيان سيدنا جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه للنجاشي: "أَيُّهَا الْمَلِكُ، كُنَّا قَوْمًا أَهْلَ جَاهِلِيَّةٍ نَعْبُدُ الْأَصْنَامَ، وَنَأْكُلُ الْمَيْتَةَ وَنَأْتِي الْفَوَاحِشَ، وَنَقْطَعُ الْأَرْحَامَ، وَنُسِيءُ الْجِوَارَ يَأْكُلُ الْقَوِيُّ مِنَّا الضَّعِيفَ، فَكُنَّا عَلَى ذَلِكَ حَتَّى بَعَثَ اللهُ إِلَيْنَا رَسُولًا مِنَّا نَعْرِفُ نَسَبَهُ، وَصِدْقَهُ، وَأَمَانَتَهُ، وَعَفَافَهُ، " فَدَعَانَا إِلَى اللهِ لِنُوَحِّدَهُ، وَنَعْبُدَهُ، وَنَخْلَعَ مَا كُنَّا نَعْبُدُ نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنْ دُونِهِ مِنَ الحِجَارَةِ وَالْأَوْثَانِ، وَأَمَرَنَا بِصِدْقِ الْحَدِيثِ، وَأَدَاءِ الْأَمَانَةِ، وَصِلَةِ الرَّحِمِ، وَحُسْنِ الْجِوَارِ، وَالْكَفِّ عَنِ الْمَحَارِمِ، وَالدِّمَاءِ، وَنَهَانَا عَنِ الْفَوَاحِشِ، وَقَوْلِ الزُّورِ، وَأَكْلِ مَالَ الْيَتِيمِ، وَقَذْفِ الْمُحْصَنَةِ، وَأَمَرَنَا أَنْ نَعْبُدَ اللهَ وَحْدَهُ لَا نُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا..." [مسند أحمد].
فكل خلق ذميم ذكره سيدنا جعفر هو جريمة بشعة تحتاج آلاف المحاضرات والخبراء في المجال النفسي والتربوي لمعالجته، لما له من أثر خطير على الفرد والمجتمع، فجاء سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمل وأكد الأخلاق الحسنة وحث عليها ونهى عن قبيحها وحث على اجتنابها.
ولكن الأمر لم يكن بهذه السهولة، فلم تكن دعوته صلى الله عليه وسلم مجرد بيانات تتلى وكلمات وخطابات تلقى، بل هي تضحيات قدمت وجهود مضنية بذلت، فعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لَقَدْ أُوذِيتُ فِي اللَّهِ، وَمَا يُؤْذَى أَحَدٌ، وَلَقَدْ أُخِفْتُ فِي اللَّهِ وَمَا يُخَافُ أَحَدٌ، وَلَقَدْ أَتَتْ عَلَيَّ ثَالِثَةٌ مَا بَيْنَ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ مَا لِي وَلِبِلَالٍ طَعَامٌ يَأْكُلُهُ ذُو كَبِدٍ إِلَّا مَا وَارَاهُ إِبِطُ بِلَالٍ) [مصنف بن أبي شيبة]، فسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بذل أعظم التضحيات.
فقد صبر وتحمل الأذى والحصار والجوع والعطش وأخرج من أرضه التي يحب، وأوذي بنفسه واتهم بعقله وبأهل بيته.
فعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: "هَلْ أَتَى عَلَيْكَ يَوْمٌ كَانَ أَشَدَّ مِنْ يَوْمِ أُحُدٍ؟ قَالَ: (لَقَدْ لَقِيتُ مِنْ قَوْمِكِ مَا لَقِيتُ، وَكَانَ أَشَدَّ مَا لَقِيتُ مِنْهُمْ يَوْمَ العَقَبَةِ، إِذْ عَرَضْتُ نَفْسِي عَلَى ابْنِ عَبْدِ يَالِيلَ بْنِ عَبْدِ كُلاَلٍ، فَلَمْ يُجِبْنِي إِلَى مَا أَرَدْتُ، فَانْطَلَقْتُ وَأَنَا مَهْمُومٌ عَلَى وَجْهِي، فَلَمْ أَسْتَفِقْ إِلَّا وَأَنَا بِقَرْنِ الثَّعَالِبِ فَرَفَعْتُ رَأْسِي، فَإِذَا أَنَا بِسَحَابَةٍ قَدْ أَظَلَّتْنِي، فَنَظَرْتُ فَإِذَا فِيهَا جِبْرِيلُ، فَنَادَانِي فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ، وَمَا رَدُّوا عَلَيْكَ، وَقَدْ بَعَثَ إِلَيْكَ مَلَكَ الجِبَالِ لِتَأْمُرَهُ بِمَا شِئْتَ فِيهِمْ، فَنَادَانِي مَلَكُ الجِبَالِ فَسَلَّمَ عَلَيَّ، ثُمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ، فَقَالَ، ذَلِكَ فِيمَا شِئْتَ، إِنْ شِئْتَ أَنْ أُطْبِقَ عَلَيْهِمُ الأَخْشَبَيْنِ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ مِنْ أَصْلاَبِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ وَحْدَهُ، لاَ يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا)" [صحيح مسلم].
ممتنون لرسول الله صلى الله عليه وسلم لأن الله جعلنا به إخوانا وبه ألف بين قلوبنا، بعد أن كنا متفرقين أعداء متنازعين. {وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا} [آل عمران: 103].
وكيف لا نمتن له صلى الله عليه وسلم وهو يشفق علينا وهو أرحم بنا من أنفسنا:
فعندما تَلَا قَوْلَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي إِبْرَاهِيمَ: {رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي} [إبراهيم: 36] الْآيَةَ، وَقَالَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المائدة: 118] ، فَرَفَعَ يَدَيْهِ وَقَالَ: (اللهُمَّ أُمَّتِي أُمَّتِي)، وَبَكَى، فَقَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: (يَا جِبْرِيلُ اذْهَبْ إِلَى مُحَمَّدٍ، وَرَبُّكَ أَعْلَمُ، فَسَلْهُ مَا يُبْكِيكَ؟) فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، فَسَأَلَهُ فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا قَالَ، وَهُوَ أَعْلَمُ، فَقَالَ اللهُ: (يَا جِبْرِيلُ، اذْهَبْ إِلَى مُحَمَّدٍ، فَقُلْ: إِنَّا سَنُرْضِيكَ فِي أُمَّتِكَ، وَلَا نَسُوءُكَ) [صحيح مسلم].
وعن أبى هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مَثَلِي كَمَثَلِ رَجُلٍ اسْتَوْقَدَ نَارًا، فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهَا جَعَلَ الْفَرَاشُ وَهَذِهِ الدَّوَابُّ الَّتِي فِي النَّارِ يَقَعْنَ فِيهَا، وَجَعَلَ يَحْجُزُهُنَّ وَيَغْلِبْنَهُ فَيَتَقَحَّمْنَ فِيهَا، قَالَ فَذَلِكُمْ مَثَلِي وَمَثَلُكُمْ، أَنَا آخِذٌ بِحُجَزِكُمْ عَنِ النَّارِ، هَلُمَّ عَنِ النَّارِ، هَلُمَّ عَنِ النَّارِ فَتَغْلِبُونِي تَقَحَّمُونَ فِيهَا) [صحيح مسلم].
وكيف لا نمتن له وهو ما زال يستغفر لنا، فهو بعد انتقاله إلى الرفيق الأعلى لم يتخلى عن أمته:
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (حَيَاتِي خَيْرٌ لَكُمْ؛ تُحدثُونَ وَيُحدثُ لَكُمْ، وَوَفَاتِي خَيْرٌ لَكُمْ؛ تُعْرَضُ عَلَيَّ أَعْمَالُكُمْ، فَمَا رَأَيْتُ مِنَ خَيْرٍ حَمِدْتُ اللَّهَ عَلَيْهِ، وَمَا رَأَيْتُ مِنَ شَرٍّ اسْتَغْفَرْتُ اللَّهَ لَكُمْ) [مسند البزار].
كيف لا نمتن لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ويوم القيامة تذهل كل مرضعة عما أرضعت وكلهم يوم القيامة يقول نفسي نفسي إلا هو يقول: أمتي أمتي.
نمتن لرسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولأن الله شرفنا بأن جعلنا من أمته فنعيش بمنهجه القويم.
فكل فضل وكل نعمة لنا أو نزلت علينا من الله سببها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي ذلك يقول الإمام الشافعي رضى الله عنه وأرضاه: "أصبحنا وما من نعمة ظاهرة أو باطنة إلا وسببها سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم".
شكراً رسول الله.
والحمد لله رب العالمين