الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، على آله وصحبه أجمعين:
العدة: هي أجلٌ ضُرِبَ شرعاً لانقضاء ما بقي من آثار النكاح أو الفراش.
انظر: " فتح القدير " (4/135)، " بدائع الصنائع " (3/190)
وقد اتفق الفقهاء على أن عدة المرأة التي فارقها زوجها بعد الدخول أو الخلوة الصحيحة بسبب من أسباب الفرقة غير الوفاة ثلاثة قروء إذا كانت من ذوات الحيض ولم تكن حاملاً ولم تبلغ سن اليأس من الحيض، ودليل ذلك قوله تعالى : ( وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوَءٍ ) البقرة/228، ولفظ القرء من الألفاظ المشتركة في لغة العرب، فهو يطلق على كلٍ من الحيض والطهر على السواء، ومن هنا اختلف العلماء في المراد بالقرء الوارد في الآية الكريمة على قولين:
القول الأول: ذهب الحنفية والحنابلة إلى أن المراد بالقرء الحيض، وعليه فإن المطلقة تنتهي عدتها بمرور ثلاث حيضات.
القول الثاني: ذهب الشافعية والمالكية إلى أن المراد بالقرء هو الطهر، وعليه فإن المطلقة الحائل ذات الحيض تنتهي عدتها بمرور ثلاثة أطهار، وكلٌّ له دليله الذي استدل به على ما ذهب إليه، وهذه الأدلة مبسوطة في كتب الفقه فلا مجال لذكرها، ولم يقل أحد من أصحاب المذاهب الأربعة أن عدة المفترقة عن زوجها بطلاق أو فسخ تحتسب بالأيام أو بالشهور، واحتسابها بذلك مخالف لصريح القرآن الكريم ولإجماع الأمة.
والفتوى إذا خالفت صريح القرآن أو الإجماع فإنها تنقض، وكذلك قضاء القاضي، وقد نص قانون الأحوال الشخصية الأردني بأن انتهاء عدة المفترقة عن زوجها إذا لم تكن حاملاً أو يائساً هو مرور ثلاثة قروء، حيث نصت المادة (135) من القانون المذكور على ما يلي:
" مدة عدة المتزوجة بعقد صحيح والمفترقة من زوجها بعد الخلوة بطلاق أو فسخ ثلاثة قروء كاملة إذا كانت غير حامل، وغير بالغة سن الإياس، وإذا ادعت قبل مرور ثلاثة أشهر انقضاء عدتها فلا يقبل منها ذلك ".
وبما أن ما لم يرد فيه نصّ في هذا القانون يرجع فيه إلى الراجح من مذهب أبي حنيفة كما نصت على ذلك المادة (183) من نفس القانون، فإن المراد بالقرء الوارد في القانون هو الحيض كما نص على ذلك المذهب الحنفي.
وعليه: فإن عدة المرأة المفترقة عن زوجها إذا لم تكن حاملاً أو يائساً من الحيض هي ثلاث حيضات، ولا تحتسب الحيضة التي طلقت فيها.
أقوال العلماء في أقل مدة يمكن أن تنتهي بها العدة:
وبما أن مدة الحيض والطهر ليس لها ضابط لدى النساء، وتتفاوت بين امرأة وأخرى، فإن العلماء قد نصوا على أقل مدة للحيض والطهر، وبالتالي أقل مدة يمكن أن تنتهي فيها عدة المرأة المفترقة عن زوجها.
فنص أبو حنيفة على أن أقل مدة تُصَدَّقُ فيها المرأة بانقضاء عدتها هي ستون يوماً، وقال أبو يوسف ومحمد: تصدق في تسعة وثلاثين يوماً.
وتخريج قولهما أنه يجعل كأنه طلقها في آخر جزء من أجزاء الطهر، وحيضها أقل الحيض ثلاثة، وطهرها أقل الطهر خمسة عشر، فثلاث مرات ثلاثة يكون تسعة، وطهران كل واحد منهما خمسة عشر يكون ثلاثين، فلهذا صدقت في تسعة وثلاثين يوماً.
وعلى تخريج قول أبي حنيفة على ما ذكره محمد رحمه الله كأنه طلقها من أول الطهر تحرزاً عن إيقاع الطلاق في الطهر بعد الجماع، وطهرها خمسة عشر؛ لأنه لا غاية لأكثر الطهر فيقدر بأقله، وحيضها خمسة، لأنه من النادر أن يكون حيضها أقل أو يمتد إلى أكثر الحيض، فيعتبر الوسط من ذلك، وذلك خمسة، فثلاثة أطهار كل طهر خمسة عشر يكون خمسة وأربعين، وثلاث حيض كل حيضة خمسةٌ يكون خمسة عشرة، فذلك ستون يوماً.
وعلى ما رواه الحسن رحمه الله تعالى يجعل كأنه طلقها في آخر جزء من الطهر؛ لأن التحرز عن تطويل العدة واجب وإيقاع الطلاق في آخر الطهر أقرب إلى التحرز عن تطويل العدة، ثم الحيض لها عشرة، لأنا لما قدرنا طهرها بأقل المدة نظراً إليها، يقدر حيضها بأكثر الحيض نظراً للزوج فثلاث حيض كل حيضة عشرةٌ يكون ثلاثين وطهران كل طهر خمسة عشر يوماً يكون ثلاثين فذلك ستون، قال: ولا معنى لما قال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى لأنه لا احتمال لتصديقها في تلك المدة.
انظر: " المبسوط " (3/217)
وذهب المالكية إلى أن أقل مدة تنقضي فيها عدة المطلقة هي ثمانية وأربعون يوماً.
وتخريجها أنها خمسة وأربعون يوماً لثلاثة أطهار، وثلاثة أيام لثلاث حيضات.
انظر: " الخرشي على خليل " (4/136).
ونص الشافعية على أن أقل مدة تنقضي فيها عدة المطلقة هي اثنان وثلاثون يوماً ولحظتان.
وتفصيل ذلك بأن تطلق وقد بقي من الطهر لحظة، ثم تحيض يوماً وليلة، ثم تطهر خمسة عشر، ثم تحيض يوماً وليلة وتطهر خمسة عشر، ثم تطعن في الحيض.
انظر: النووي، " روضة الطالبين " (3/179)، " مغني المحتاج " (5/8)
وذهب الحنابلة إلى أن أقل مدة يمكن أن تنتهي فيها عدة المرأة هي شهر واحد فقط.
وذلك على اعتبار أن أقل مدة للحيض عندهم هي ثلاثة عشر يوماً.
وعند النظر والتدقيق في أقوال الفقهاء السابقة نجد أن أطول مدة ذكرها العلماء في أقل ما يمكن أن تنقضي به عدة المفترقة عن زوجها هي ستون يوماً، وهي المدة المنقولة عن الإمام أبي حنيفة رحمه الله تعالى.
وعليه: فإن المرأة المفترقة عن زوجها إذا ادعت انقضاء عدتها بعد مرور ستين يوماً على افتراقها عن زوجها، فإن عدتها تنتهي باتفاق الفقهاء، وأي فتوى بخلاف ذلك فهي مخالفة لإجماع العلماء وصريح القرآن الكريم.
وبالعودة إلى الشق الثاني من نص المادة (135) والذي ينص على أنه:
" إذا ادَّعت قبل ثلاثة أشهر انقضاء عدتها فلا يقبل منها ذلك "
مما يوهم القضاة والمفتين بأنه إذا ادعت المرأة انقضاء عدتها قبل ثلاثة أشهر فإنه لا يقبل منها بحال، وقد سبق وبينا من خلال أقوال العلماء أن هذا لم يقل به أحد، ومخالف لصريح القرآن الكريم.
وقد صدر قرار من محكمة استئناف عمان الشرعية رقم (2044/2008، 71034 تاريخ 15/8/2008م) يبين أن نص المادة السابقة مأخوذة من أقوال بعض فقهاء المالكية، حيث إن مشهور المذهب أن المرأة مصدقة بانقضاء عدتها مع اليمين إذا كان الزمن يحتمل ذلك، ولكن علماء فاس لما رأوا كثرة كذب النساء في دعوى انقضاء العدة صاروا لا يقبلون من المرأة انقضاء عدتها في أقل من ثلاثة أشهر، مع أن القول بعدم تصديقها خفيف جداً، ونصوا على أنا إذا رأينا نساء بلد يكذبن ألزمناهن ما جرى به عمل فاس بناءً على قول ابن وهب، وإلا لزم اتباع المشهور من تصديقهن مطلقاً.
ومعنى قول فقهاء المذهب المالكي في هذا الأمر هو منع تزويجها من آخر قبل مرور ثلاثة أشهر لما كثر كذب النساء في دعوى انقضاء العدة، وأما بالنسبة للرجعة إلى مطلقها فإنها تصدق في كل ما يمكن انقضاؤها فيه، وعليه فإن الأخذ بهذا لا يترتب عليه محظور شرعي، ولكن المحظور الشرعي يترتب على إعادتها إلى مطلِّقها وقد انقضت عدتها، وفي ذلك مخالفة صريحة لنص القرآن الكريم.
وقد خلص القرار المشار إليه أعلاه أخذاً من مذهب أبي حنيفة إلى أن المرأة إذا ادعت انقضاء عدتها بعد مضي ستين يوماً على فراقها لزوجها وقبل إكمالها مدة تسعين يوماً فهي مصدقة بيمينها، وقد بين القرار أن المادة تفهم بهذا المعنى دفعاً للتناقض بين نص المادة ونص القرآن الكريم.
وجمعاً بين أقوال الفقهاء في أقل ما تنقضي به العدة، وقانون الأحوال الشخصية الأردني، ونص قرار محكمة استئناف عمان الشرعية، آخذين بعين الاعتبار مذهب الإمام أبي حنيفة، فإن ما عليه الفتوى في الدائرة أن المرأة المطلقة إذا ادعت انقضاء عدتها بالحيض ثلاث مرات بعد مضي ستين يوماً على تاريخ طلاقها دون أن يراجعها زوجها، فإنها تُفتَى بأن عدتها قد انتهت، وبأنها بانت من زوجها بينونة صغرى أو كبرى بحسب عدد الطلقات السابقة، ويكتب لها في الفتوى بأن عليها مراجعة القاضي الشرعي لإثبات ذلك أمامه.
والله تعالى أعلم.