الحمد لله رب العالمين، والصلاة السلام على سيد المرسلين، وخاتم النبيين، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين، أما بعد:
فقد قال الله تعالى: ( إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ وَمَن يَتَوَلَّ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ اللّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ ) المائدة/55-56، وقال أيضاً: ( اللّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَآؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ) البقرة/257.
فهذه الآيات تبين أن الله عز وجل ولي الذين آمنوا، وولي الإنسان هو الذي يدافع عنه وينصره، قال الله تعالى: ( إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا ) الحج/38. وما على المؤمن بعد أن يؤدي ما أمره الله به فيجده حيث أمره ، ويفتقده حيث نهاه ، إلا أن يتوجه إلى الله عز وجل في عسره ويسره ، في شدته ورخائه ، ويكون إقباله على الله أشد ، ودعاؤه إياه أقوى ، وطمعه في رحمته أوسع ، إذا ما أبتلي بشيء من الخوف أو الجوع أو نقص من الأموال أو الأنفس أو الثمرات، عندها فإن الله عز وجل يجيب مَن سأله، ويمنح من طلبه، ويعز من التجأ إليه؛ لأن من جعلَ ولاءه لله عز وجل بحق تولاه الله بنصره وحفظه بمنه وكرمه, فهو سبحانه يعز من والاه، ويذل من عاداه، نِعم المولى ونِعم النصير ( وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ ) الحج/78.
لقد أكد القرآن بما لا يدع مجالا للشك أن الله عز وجل مولى الذين آمنوا، وأن الذين كفروا لا مولى لهم، فقال تعالى: ( ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ ) محمد/11.
ومن أجل أن تستيقن ذلك أيها الأخ الحبيب، ويصبح جزءا من عقيدتك، تتقرب بها إلى الله عز وجل، ويكون سلاحك الذي تتسلح به في حملك للأمانة، وتأديتك للرسالة، فإني أذكر نفسي وإياك بحوادث تجلت فيها ولاية الله للمؤمنين، وكانت فيها العبرة والعظة للمعتبرين:
أولاً:لمّا انقضت معركة أُحُد صعد أبو سفيان - وكان ما زال مشركا يومها - على مكان مرتفع ونادى بالمسلمين مظهراً الشماتة بهم قائلاً: أفيكم محمد؟ فلم يرد عليه أحد، أفيكم أبو بكر؟ فلم يرد عليه أحد، فقال: أفيكم عمر بن الخطاب؟ فلم يرد عليه أحد، فقال: أما هؤلاء فقد قتلوا، فلم يتمالك عمر نفسه فرد عليه قائلاً: يا عدو الله إن الذين ذكرتهم أحياء، وقد أبقى الله لك ما يسوؤك، ثم قال أبو سفيان: أُعْلُ هبل. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ألا تجيبونه؟ قالوا: ما نقول يا رسول الله؟ فقال صلى الله عليه وسلم قولوا: الله أعلى وأجل. فقال أبو سفيان: لنا العزى ولا عزى لكم. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ألا تجيبونه؟! قالوا: ما نقول يا رسول الله؟ فقال صلى الله عليه وسلم قولوا: الله مولانا ولا مولى لكم. فقال أبو سفيان: يوم بيوم بدر والحرب سجال، فقال عمر بن الخطاب: لا سواء، قتلانا في الجنة، وقتلاكم في النار. رواه البخاري.
ثانيا:في حادثة الهجرة النبوية بعد أن توكل النبي صلى الله عليه وسلم على الله عز وجل، واتخذ الأسباب المادية، وإذا بقريش تقف على باب الغار، فيقول أبو بكر رضي الله عنه للنبي صلى الله عليه وسلم: ( لو أن أحدهم نظر إلى تحت قدميه لأبصرنا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما ظنك باثنين الله ثالثهما ) رواه البخاري.
وقد سجل الله هذه الحادثة بقوله: ( إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيم ) التوبة/40.
لا إله إلا الله أعلنها النبي صلى الله عليه وسلم إعلان الواثق بأن الله عز وجل يتولاهما ويحفظهما من كل سوء، فقال بلا تردد: لا تحزن إنّ الله معنا.
وتمر الأيام... فإذا بالمهاجر من مكة يعود لها بإذن الله ورعايته فاتحا منتصراً قائلاً: ( وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً ) الإسراء/81.
ثالثا:وهذا سيدنا إبراهيم عليه السلام بعد أن حطم أصنام القوم التي كانت تُعبَد من دون الله عز وجل يُصدر حكما بحقه مفاده: ( قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ ) الأنبياء/68، ترى ماذا كانت النتيجة؟! لقد بدأ القوم فعلا بالاستعداد لإحراق إبراهيم، وحفروا له حفرة عظيمة، وأشعـلوا فيها النار، وأحضروا المنجنيق ليقذفوا إبراهيم فيها، واشتعلت النار في الحفرة، وتصاعد اللهب إلى السماء، وكان الناس يقفون بعيدا عن الحفرة من فرط الحرارة اللاهبة، " وبينما يستعد الجميع لإلقاء الخليل في النار إذا به يلجأ للحصن الحصين، والملجأ الذي لا يَكِلُ الله فيه من توكل عليه إلى غيره، فقال إبراهيم عليه السلام: حسبي الله ونعم الوكيل، وألقي الخليل في النار، ولكن النار خلق من خلق الله تأتمر بأمر الله، فناداها الله عز وجل قائلا: ( يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ ) الأنبياء/69، رغم ما بها من حرارة، ما أحرقت إلا الحبل الذي أوثقوه به ليطّهر من دنسهم، فقد أبى الله عز وجل أن يكون على جسده منهم دنس، أرادوا أن يغلبوا فغلبوا، وأرادوا أن ينتصروا فخذلوا ( وَأَرَادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ ) الأنبياء/70، لقد كان إبراهيم عليه السلام وحيدا، ولكن انتصر الإيمان على الكفر؛ لأن الله عز وجل تولاه فحفظه ورعاه، لقد قدم الخليل أمر ربه على كل شيء ولو على نفسه، فأكرمه الله ونصره، وأعلَمَ مَن وراءه أن جزاء المؤمن النصر، ولو كان المؤمن وحيدا والمؤمنون قلة، قدم الخليل نفسه للنيران ليعلّم مَن وراءه أن الغلبة في طاعة الله، فما كان من الله عز وجل إلا أن أعلى شأنه ورفع ذكره ( سَلامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ ) الصافات/109 سِجِلٌّ خالد، وكتاب مرقوم، فخذوا إيمان إبراهيم تكن لكم في النار جنات النعيم "([1])
رابعاً:وفي قصة سيدنا موسى عليه السلام مع فرعون، عندما قال مَن آمن مع موسى عليه السلام مِن بني إسرائيل في ذعر وخوف وهلع: ( قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ ) الشعراء/61؛ فالبحر أمامهم وفرعون وجنده خلفهم، إلا أن موسى عليه السلام لم يأخذ برهة من الوقت ليجيبهم على ذلك، بل قال بلسان الواثق بنصر الله وتأيده له: ( قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ ) الشعراء/62، فجاء الأمر الإلهي نصرة لأوليائه: ( فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ وَأَنجَيْنَا مُوسَى وَمَن مَّعَهُ أَجْمَعِينَ ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ) الشعراء/63-68.
لقد أغرق الله عز وجل فرعون وجنوده، وأنقذ موسى عليه السلام ومَن آمن معه، " لتظل قصة موسى شاهداً على أن الأمن والأمان لا يكونان إلا في جنب الله، وأن الخوف لا يكون إلا في البعد عن الله، وأن الطغيان حينما يعلو لا يحتاج إلى من يدفعه، وإنما يحتاج إلى قوم يجعلهم الله أئمة ووارثين، لقد ألقي موسى في اليم، وألقي فرعون في اليم، فكان اليم منجاة لموسى، ومهلكه لفرعون، إذ عاقبة موسى عاقبة المتقين، وعاقبة فرعون عاقبة الكافرين الظالمين، فلنأخذ من هذا المعتبر، ولنصبر فإن وعد الله حق، لكن مع الذين اتقوا منهم وأحسنوا "([2]) قال تعالى: ( إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ ) النحل/128.
أخي الحبيب!
الأمثلة كثيرة، ولكن المقام يضيق عن ذكرها، وقد أردت بهذه الكلمات أن يستيقن المؤمن بموعود الله ونصره، وأن الله عز وجل يتولى المؤمنين، وهو ناصرهم ومؤيدهم على من ظلمهم وخذلهم، فإن قامت للباطل دولة ساعة، فإن دولة الحق إلى قيام الساعة ( وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا المرسلين إِنَّهُمْ لَهُمُ المنصورون وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الغالبون ) الصافات/171- 173، وإذا وقع بالمؤمنين بلاء فليس ذلك لهوانهم على الله، بل ليرفع درجاتهم، ويكشف ما في صدور أعدائهم.
والله الموفق.
([1]) صحيح قصص القرآن، حامد البسيوني، ص137.
([2]) المرجع السابق، ص314.