لأهل بدر دين في أعناقنا إلى يوم القيامة
الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على أشرف الخلق والمرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه والتابعين، وبعد:
فإن تاريخ أمتنا الإسلامية مليء بالصفحات المشرقة التي تفتخر بها وتدفعها لبثّ روح التفاؤل والأمل، والإيمان بخيرية هذه الأمة التي جعلها الله تعالى أمةً وسطاً بين الأمم تدعو لقيم الحق والخير، وتنشر الفضيلة، يقول الله سبحانه وتعالى: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ) [آل عمران: 110]، لذلك كان لزاماً على أبناء هذه الأمة، أن تستذكر تاريخها المجيد بما فيه من محطات فارقة، مواقف مفصلية، لتبقى هذه الأمة متصلة بجذورها الراسخة، وتزرع في أبنائها الأمل من جديد، وتربطهم بقدواتهم الأخيار، وسلفهم الأبرار، يقول الله تعالى: (وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ) [إبراهيم: 5].
وقد مرّ في تاريخ هذه الأمة أحداث عظيمة، صنعت هوية الأمة، وثبتت أقدامها، ورسّخت قيمها ولمّا كانت هذه الأمة هي خاتمة الأمم، وكتابها آخر الكتب، لتكون نوراً يهدي الأمم إلى يوم القيامة (والله متم نوره ولو كره الكافرون)[الصف: 8]، فقد اصطفى الله تعالى لها خيّر نبيّ، وأيّده ونصره بخير رجال يحملون الدين على أعناقهم، ويضحون في سبيله بمهجهم وأرواحهم، ويبيعون الدنيا في سبيل الآخرة، (اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ) [الأنعام: 124]، فكان وجود هؤلاء الأشخاص في ذلك الزمان والمكان، بتقدير من الله سبحانه وتعالى، وقد جعل فيهم سبحانه من الصفات ما تؤهلهم للقيام بهذه المهمة العظيمة، وعلم سبحانه وتعالى أنه لا يصلح لحمل هذه الأمانة غيرهم، فكانوا هم الرجال والقادة، وحملة لواء الشريعة، والذابين عن حياضها، وسدنة آياتها ومنهاجها، (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) [الأنفال: 64].
وإن من أهم هذه المحطات، بل ربّما هي أهمها على الإطلاق هي غزوة بدر الكبرى التي حدثت في السابع عشر من شهر رمضان للسنة الثانية من الهجرة المباركة، حيث كشفت هذه الغزوة عن معادن الرجال، وفرقت بين الحق والباطل، وبين الإيمان والكفر، لذلك سمّاها الله سبحانه وتعالى بيوم الفرقان، (وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [الأنفال: 41]، فكانت غزوة بدر حدثاً فاصلاً بين معسكر الإيمان ومعسكر الكفر، وبين الانتماء لمسار التغيير الجذري وبين مقاومة هذا المسار، ففي هذه الغزوة المباركة ظهرت تجليات عزة المسلمين، وتوفيق الله تعالى لهم، وقد قام بهذه المهمة ثلّة من خيرة الصحابة، الذين تجردوا عن متاع الدنيا وزينتها، واختاروا الإسلام ليزين أخلاقهم ويهذب نفوسهم، وافتقروا إلى العتاد والسلاح، فتسلحوا بالإيمان والتقوى وحبّ النبي صلى الله عليه وسلم، وأصابهم نقص في العدد والجُند، فأمدهم الله تعالى بالملائكة من السماء تقاتل إلى جانبهم، وكان كل ذلك ببركة دعاء النبي صلى الله عليه وسلم لهم وقد مدّ يديه مناجياً ربّه سبحانه وتعالى (اللهم إنهم حفاة فاحملهم، اللهم إنهم عراة فاكسهم، اللهم إنهم جياع فأشبعهم)([1]).
إن أهل بدر كانوا هم خُلاصة الإيمان في الدنيا بأسرها، بعد أن مُلئت الأرض ظلماً وجوراً، فالعرب كانوا يعبدون الأوثان، وأهل فارس كانوا يعبدون النيران، والروم بين مبدل لدينه محرف له، وبين تارك لمبادئه وقوانينه، وبعض أهل الأرض كان يعبد مظاهر الطبيعة وما فيها من أشجار وحيوانات وغيرها، حتى جاء نبينا صلى الله عليه وسلم برسالة الهداية والنور التي لخصها جعفر بن أبي طالب بكلمات فصيحة أمام النجاشي ملك الحبشة، حين قال: "أَيُّهَا الْمَلِكُ، كُنَّا قَوْمًا أَهْلَ جَاهِلِيَّةٍ نَعْبُدُ الْأَصْنَامَ، وَنَأْكُلُ الْمَيْتَةَ وَنَأْتِي الْفَوَاحِشَ، وَنَقْطَعُ الْأَرْحَامَ، وَنُسِيءُ الْجِوَارَ يَأْكُلُ الْقَوِيُّ مِنَّا الضَّعِيفَ، فَكُنَّا عَلَى ذَلِكَ حَتَّى بَعَثَ اللهُ إِلَيْنَا رَسُولًا مِنَّا نَعْرِفُ نَسَبَهُ، وَصِدْقَهُ، وَأَمَانَتَهُ، وَعَفَافَهُ، فَدَعَانَا إِلَى اللهِ لِنُوَحِّدَهُ، وَنَعْبُدَهُ، وَنَخْلَعَ مَا كُنَّا نَعْبُدُ نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنْ دُونِهِ مِنَ الحِجَارَةِ وَالْأَوْثَانِ، وَأَمَرَنَا بِصِدْقِ الْحَدِيثِ، وَأَدَاءِ الْأَمَانَةِ، وَصِلَةِ الرَّحِمِ، وَحُسْنِ الْجِوَارِ، وَالْكَفِّ عَنِ الْمَحَارِمِ، وَالدِّمَاءِ، وَنَهَانَا عَنِ الْفَوَاحِشِ، وَقَوْلِ الزُّورِ، وَأَكْلِ مَالَ الْيَتِيمِ، وَقَذْفِ الْمُحْصَنَةِ، وَأَمَرَنَا أَنْ نَعْبُدَ اللهَ وَحْدَهُ لَا نُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا، وَأَمَرَنَا بِالصَّلاةِ، وَالزَّكَاةِ، وَالصِّيَامِ"([2]).
فكانت هذه الفئة المباركة من أهل بدر هي بصيص الأمل للبشرية كلها، بعودة منهج الله تعالى وعبادته على هذه الأرض، وكانوا بنقائهم وإخلاصهم كالمؤمنين الذين جاوزوا مع طالوت وجنوده النهر بعد أن امتحن الله تعالى قلوبهم للتقوى، فهم خلاصة الإيمان التي لا تخالطها شائبة، عَنِ البَرَاءِ، قَالَ: كُنَّا أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، نَتَحَدَّثُ: "أَنَّ عِدَّةَ أَصْحَابِ بَدْرٍ عَلَى عِدَّةِ أَصْحَابِ طَالُوتَ الَّذِينَ جَاوَزُوا مَعَهُ النَّهَرَ، وَلَمْ يُجَاوِزْ مَعَهُ إِلَّا مُؤْمِنٌ بِضْعَةَ عَشَرَ وَثَلاَثَ مِائَةٍ"([3]).
فاختيار النبي صلى الله عليه وسلم الدخول في معركة بدر هو انتقال من مرحلة الدعوة والصبر الجميل على أذى المشركين إلى مرحلة الدفاع عن النفس، وحفظ حرمات المسلمين وأموالهم من التعرض للنهب والسلب، (وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ، لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ) [الأنفال: 7-8]، فانتقل المسلمون إلى مرحلة جديدة من مراحل الدعوة وهي تحقيق كرامة المسلمين، ودفع الظلم عنهم: (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ، الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) [الحج: 39-40].
لم يخرج الله تعالى المسلمين لنيل مكاسب مادية، ولا طمعاً بمتاع الدنيا وزينتها، ولم يخرجهم انتقاماً أو ثأراً تقودهم النزعات القبلية أو العنجهية الجاهلية، وإنما أخرجهم دفعاً لظلم وقع عليهم على مدار سنوات طوال وإحقاقاً للحق وإبطالاً للباطل، ورداً للبغي والطغيان وإنقاذ المستضعفين من الرجال والنساء المسلمين، بعد أن التزموا الصبر الجميل الذي أمرهم به الله سبحانه وتعالى، ودفاعاً عن المبدأ الحق، والعقيدة الصحيحة، وتوحيداً خالصاً لله سبحانه وتعالى (لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ) [الأنفال:8]، لذلك وصف الله تعالى الفريقين من المؤمنين والكافرين، في معركة بدر، بأنهما فريقين اختصما في ربهم، قال عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: "أَنَا أَوَّلُ مَنْ يَجْثُو بَيْنَ يَدَيِ الرَّحْمَنِ لِلْخُصُومَةِ يَوْمَ القِيَامَةِ" وَقَالَ قَيْسُ بْنُ عُبَادٍ: وَفِيهِمْ أُنْزِلَتْ: {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} [الحج: 19]، قَالَ: "هُمُ الَّذِينَ تَبَارَزُوا يَوْمَ بَدْرٍ: حَمْزَةُ، وَعَلِيٌّ، وَعُبَيْدَةُ، أَوْ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الحَارِثِ، وَشَيْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ، وَعُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ، وَالوَلِيدُ بْنُ عُتْبَةَ"([4])، فكان لقاءً مقدراً، ومدبراً من لدن حكيم عليم، أراده من هذه الفئة خاصة، وكلّفهم به تكليفاً ، فحمّلهم أمانة الدفاع عن الدين وحمله على أعتاقهم، والتجاوز به أصعب المحن، وأقسى الظروف، فهيأ الله تعالى له الأسباب، وجمع الفريقين بلا ميعاد، (إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ، إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُور، وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) [الأنفال: 42-43].
وكذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يجبرهم على الخروج أو القتال، ولم يدفعهم إكراهاً للتضحية بأموالهم وأنفسهم بل كانت لهم الخيرة في أمرهم، فمن شاء أن يقدم نفسه وماله راضياً فقد نال رضى الله سبحانه وتعالى، لأن الأنصار من أهل المدينة تعهدوا بالدفاع عن النبي صلى الله عليه وسلم داخل المدينة المنورة أما خارجها فلم يتعرضوا له، لكن المؤمنين من المهاجرين والأنصار قد تسابقوا في ميادين التضحية، رغم قلة عددهم وعتادهم، فهدا الْمِقْدَادُ بْنُ عَمْرٍو يقول: يَا رَسُولَ اللَّهِ، امضِ لِمَا أَرَاكَ اللَّهُ فَنَحْنُ مَعَكَ، وَاَللَّهِ لَا نَقُولُ لَكَ كَمَا قَالَتْ بَنُو إسْرَائِيلَ لِمُوسَى: {اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة: 24]، وَلَكِنْ اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إنَّا مَعَكُمَا مُقَاتِلُونَ، فَوَاَلَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَوْ سِرْتَ بِنَا إلَى بَرْك الْغِمَاد لَجَالَدْنَا مَعَكَ مِنْ دُونِهِ، حَتَّى تَبْلُغَهُ [سيرة ابن هشام].
وهذا سعد بن عبادة رضي الله عنه يقول للنبي صلى الله عليه وسلم وهو يستشير المؤمنين بالخروج للقاء قريش: "إيانا تريد يا رسول الله؟ والذي نفسي بيده، لو أمرتنا أن نخيضها البحر لأخضناها، ولو أمرتنا أن نضرب أكبادها إلى برك الغماد لفعلنا"([5])، فكان دفاعهم عن هذا الدين وقيمهم ومبادئه نابعاً من انتماء داخلي صادق، وإدراك لقيمه التي ترخص في سبيلها الدماء والأموال.
لذلك علم النبي صلى الله عليه وسلم أهمّية هذه الثلة المباركة، التي ستُقام على صمودها في هذه المعركة، أعظم أمة في تاريخ البشرية، فكان لقاء بدر، هو لقاء تحديد مصير أمة بكاملها، والصمود والنصر في هذه المعركة، يعني إظهار قوة الإسلام وعزته ومنعته، وبوابة لانطلاق الدعوة إلى كافة أقطار الدنيا، وأما انكسار شوكة المسلمين، تعني القضاء على هذا الدين وهو في مهده، لذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم، ورغم وعد الله سبحانه وتعالى له بالنصر والتمكين في هذه المعركة، وفرار المشركين وهزيمتهم، في قول الله سبحانه وتعالى: (أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ، سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ) [القمر: 44-45].
يقول نصر بن محمد السمرقندي: "وفي هذا علامة من علامات النبوة، لأن هذه الآية نزلت بمكة، وأخبرهم أنهم سيهزمون في الحرب، فكان كما قال. وروى عبد الرزاق، عن معمر، عن قتادة، أن عمر رضي الله عنه قال: لما نزلت هذه الآية: سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ فكنت لم أعلم ما هي، وكنت أقول: أي: جمع يهزم؟ فلما كان يوم بدر، رأيت النبيّ صلّى الله عليه وسلم يثبت في الدرع، ويقول: (سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ)"([6]).
وفي ذلك يقول حسان:
ولقد وليتم الدبر لنا ... حين سال الموت من رأس الجبل
وذكّرهم الله تعالى بنعمته على المسلمين وقت أن كانوا قلّة أذلة يستضعفهم الكفار، ويخافون من المشركين أن يتخطفوهم بالقتل والسلب فأواهم في المدينة وأعانهم وقواع ونصرهم يوم بدر بنصره المؤزر، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يفتر عن الدعاء لهم، وطلب المدد من الله تعالى، والرجاء بالمعونة والنصر والتمكين، فجعل يهتف بربه: (اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم آت ما وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تعبد في الأرض)، فما زال يهتف بربه، مادا يديه مستقبل القبلة، حتى سقط رداؤه عن منكبيه، فأتاه أبو بكر فأخذ رداءه، فألقاه على منكبيه، ثم التزمه من ورائه، وقال: يا نبي الله، كفاك مناشدتك ربك، فإنه سينجز لك ما وعدك([7]).
وقد جاء المدد الإلهي سريعاً إلى هذه الثّلة الصابرة، وأيدها بمعجزات وكرامات عديدة، لتثبت أقدامها، وتشدّ من همتها، وتقوي عزيمتها، فهؤلاء هم جند الله، الذين نذروا أرواحهم رخيصة للدفاع عن دين الله، خاصة وأنهم كاوا مع قلة عددهم كثيرون بتمسكهم بالله، ومع قلة عتادهم، متسلحين بسلاح الإيمان، فتذكر الروايات بأن عدد المسلمين في غزوة بدر كان لا يتجاوز الثلاثمائة وخمسين مقاتلاً وعدد المشركين يقارب الألف.
ومن هذه الكرامات التي تظهر فضل الصحابة رضي الله عنهم، وتأييد الله تعالى لهم، أن أنزل الله تعالى عليهم الطمأنينة في قلوبهم، والراحة على أجسادهم، وغسلهم بالماء، وثبت الأرض تحت أقدامهم، (وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ، إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ) [الأنفال: 11].
روى النسائي عن أَنَسٌ بن مالك: قَالَ أَبُو طَلْحَةَ: "كُنْتُ مِمَّنْ أُلْقِيَ عَلَيْهِ النُّعَاسُ يَوْمَ أُحُدٍ حَتَّى سَقَطَ السَّيْفُ مِنْ يَدِي ثَلَاثًا"([8]).
ومن فضائل أهل بدر كذلك، أن الله تعالى أنزل الملائكة للقتال معهم وتأييدهم، قال تعالى: (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ) [الأنفال: 9]، وقال سبحانه وتعالى: (إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ) [الأنفال: 12]، فكان قتال الملائكة للمؤمنين وتثبيتهم لهم في ميدان المعركة من الكرامات التي أظهرت فضل بدر رضي الله عنهم، وبيان كمال إيمانهم.
وبذلك نال أهل بدر الفضل والشرف في الدنيا والآخرة، فهم خيرة خلق الله تعالى بعد النبي صلى الله عليه وسلم، وفضل عمّ المسلمين جميعاً، بل الخلق كلهم، فالنبي صلى الله عليه وسلم هو الرحمة المهداة للعالمين، وأهل بدر كانوا هم الباب الذي أوصل هذه الرحمة، والجسر الذي عبرت عليه، والنافذة التي أشرقت منها على العالمين، ولهذا الفضل، جاء جبريل عليه السلام يبلغ الناس بفضلهم، فقال للنبي صلى الله عليه وسلم: "ما تعدون من شهد بدرا فيكم؟" قالوا: خيارنا، قال: "وَكَذَلِكَ مَنْ شَهِدَ بَدْرًا مِنَ المَلاَئِكَةِ"([9]).
فهذه الدرجة العالية لأهل بدر عند الله سبحانه وتعالى، كانت نظير ما بذلوه من تضحيات عظام في سبيل نشر الدين والحفاظ على بيضته، وصيانته عن الاندثار على يد أعدائه.
فكان النصر والتأييد من الله سبحانه وتعالى، وكانت الخيرية والأفضلية لهم في الدنيا والآخرة، وانقلب الخوف من العدو إلى اطمئنان بوعد الله، وانقلبت الذِلة إلى عزة وفخر، وانقلب الحزن إلى فرح بنصر الله، يقول الله تعالى: (وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [آل عمران: 124].
ويكفينا في معرفة فضل أهل بدر رضي الله عنهم وفضلهم على الأمة إلى يوم القيامة، أن نعلم أن الله تعالى غفر لهم ذنوبهم، ورفع مقامهم، وقد علم الله تعالى ما في قلوبهم من صدق، وصبر، فأثابهم بذلك مغفرة عمّت حياتهم الدنيا، ومفازة من العذاب في الآخرة، فهذا حاطب بن أبي بلتعة رضي الله تعالى عنه وكان ممن شهد بدراً مع النبي صلى الله عليه وسلم، حين أراد إرسال كتاب إلى قريش بخبرهم به من بقدوم المسلمين لفتح مكة وتم اكتشاف الأمر بوحي من الله سبحانه وتعالى، وتدارك الموقف، قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه للنبي صلى الله عليه وسلم: دَعْنِي أَضْرِبْ عُنُقَهُ فَإِنَّهُ قَدْ نَافَقَ، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: (أَلَيْسَ مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ؟) فَقَالَ: (لَعَلَّ اللَّهَ اطَّلَعَ إِلَى أَهْلِ بَدْرٍ؟ فَقَالَ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ، فَقَدْ وَجَبَتْ لَكُمُ الجَنَّةُ، أَوْ: فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ) فَدَمَعَتْ عَيْنَا عُمَرَ، وَقَالَ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ([10])، وفي صحيح مسلم أن عبدا لحاطب جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم يشكو حاطبا فقال: يا رسول الله ليدخلن حاطب النار، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كذبت لا يدخلها، فإنه شهد بدرا والحديبية)([11]).
كما ورد من فضل أهل بدر رضي الله عنهم، أن سبب نزول قوله تعالى: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا) [المجادلة: 11]، أنها نزلت في قومٍ كانوا يبكرون إلى مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم ويأخذون مجالسهم بالقرب منه فإذا دخل غيرهم ضنُّوا بمجالسهم وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحبُّ أن يُكرم أهل بدرٍ، فدخلوا يوماً فقاموا بين يديه ولم يجدوا عنده مجلساً ولم يقم لهم أحدٌ من هؤلاء، فَقَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ: قُمْ يَا فُلَانُ وَأَنْتَ يَا فُلَانُ فَأَقَامَ مِنَ الْمَجْلِسِ بِقَدْرِ النَّفَرِ الَّذِينَ قَامُوا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ أَهَّلِ بَدْرٍ، فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى مَنْ أُقِيمَ مِنْ مَجْلِسِهِ، وَعَرَفَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْكَرَاهِيَةَ فِي وُجُوهِهِمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ([12]).
ففي هذه الأحاديث يتضح لنا فضل أهل بدر عليهم رضوان الله تعالى، وأنّ الله سبحانه وتعالى قد وعدهم الجنّة في الآخرة، وغفر لهم ذنوبهم في الدنيا، بما علم سبحانه وتعالى من كمال إيمانهم، وإخلاصهم لنبيهم ولدينهم.
وأما الصحابة الكرام رضي الله عنهم فقد كان شأنهم الاعتراف بفضل أهل بدر رضي الله عنهم، وتقديمهم في كل محفل وموضع.
فهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين فرض الأعطيات لأهل المدينة، قدّم أهل بدر على مَن سواهم من الصحابة الكرام، اعترافاً منه بفضلهم ومكانتهم، فقال رضي الله عنه: "لَا أَجْعَلُ مَنْ قَاتَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَنْ قَاتَلَ مَعَهُ، فَفَرَضَ لِلْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ مِمَّنْ شَهِدَ بَدْرًا خَمْسَةَ آلَافٍ خَمْسَةَ آلَافٍ، وَفَرَضَ لِمَنْ كَانَ لَهُ الْإِسْلَامُ كَإِسْلَامِ أَهْلِ بَدْرٍ وَلَمْ يَشْهَدْ بَدْرًا أَرْبَعَةَ آلَافٍ أَرْبَعَةَ آلَافٍ"([13]).
وهذا علي بن أبي طالب كَانَ إذا صلاة الجنازة على من توفى من المسلم فإنه "يُكَبِّرُ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ سِتًّا، وَعَلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَمْسًا، وَعَلَى سَائِرِ النَّاسِ أَرْبَعًا"([14]).
وقد نقل الإمام النووي الإجماع على أفضلية أهل بدر على ما سواهم من الناس، فقال رحمه الله تعالى: "أصحابنا مجمعون على أن أفضلهم -أي الصحابة- الخلفاء الأربعة على الترتيب المذكور ثم تمام العشرة ثم أهل بدر ثم أحد ثم بيعة الرضوان"([15]).
ومن خلال هذا يتضح فضل أهل بدر رضي الله تعالى عنهم، ومزيتهم على سائر الناس، فهم خيرة الخيرة، وقد بشّرهم النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة بمجموعهم، وخصّ منهم العشرة المبشرون، وجعل فيهم خصوص الخصوص وهم الخلفاء الأربعة أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، ثم كانوا خيرة القرون والأتباع للنبي صلى الله عليه وسلم، فكانوا نوراً على نور، ومن خير إلى خير، حملوا لواء الدين، وأوصلوا لنا راية الحق، والخير والهداية، وقام الدين على أكتافهم، حتى انتشر في مشارق الأرض ومغاربها، ولم يدع بيتاً إلا دخله، بفضل الله تعالى ومنته، وبقيام رجال كانوا على قدر أهل العزم، تحملوا أدوا الأمانة، وحملوا المسؤولية فقاموا بها خير قيام، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) [الأنفال: 29].
فلهم الأجر والثواب عن أمة محمد صلى الله عليه وسلم، ولهم دين في أعناقنا لا نكافئهم أداءه إلى يوم القيامة.
سائلين الله تعالى أن يجمعنا وإياهم تحت لواء سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم يوم القيامة، وأن ندخل الجنة برفقتهم وشفاعة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، إنه سميع مجيب.
والحمد لله ربّ العالمين
([1]) سنن أبي داود، كتاب الجهاد، باب في نفل السرية تخرج من العسكر، رقم 2747.
([2]) مسند الإمام أحمد، تحقيق شعيب الأرناؤوط، ط1، مؤسسة الرسالة، بيروت، لبنان، رقم الحديث: (1740).
([3]) صحيح البخاري، محمد بن إسماعيل، كتاب المغازي، باب عدة أصحاب بدر، رقم 3958.
([4]) صحيح البخاري، كتاب المغازي، باب قتل أبي جهل، رقم الحديث: (3965).
([5]) مسلم بن الحجاج، صحيح مسلم، كتاب الجهاد والسير، باب غزوة بدر، رقم (1779).
([6]) السمرقندي، نصر بن محمد، تفسير بحر العلوم، 3/376.
([7]) صحيح مسلم، كتاب الجهاد والسير، باب الإمداد بالملائكة في غزوة بدر وإباحة الغنائم، رقم 1763.
([8]) النسائي، أحمد بن شعيب، قوله تعالى: (إذ يغشيكم النعاس أمنة)، حديث رقم (11014).
([9]) صحيح البخاري، كتاب المغازي، باب شهود الملائكة بدراً، رقم (3992).
([10]) صحيح البخاري، كتاب المغازي، باب فضل من شهد بدراً، رقم (3983).
([11]) صحيح مسلم، كتاب الجهاد والسير، باب باب من فضائل أهل بدر رضي الله عنهم وقصة حاطب بن أبي بلتعة، رقم 2495.
([12]) البغوي، الحسين بن مسعود، معالم التنزيل في تفسر القرآن الكريم، تحقيق: عبد الرزاق المهدي، ط1، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 5/44.
([13]) ابن أبي شيبة عبد الله بن محمد، الكتاب المصنف في الأحاديث والآثار، باب مَا قَالُوا فِي الْفُرُوضِ وَتَدْوِينِ الدَّوَاوِينِ، رقم (32868).
([14]) ابن أبي شيبة عبد الله بن محمد، الكتاب المصنف في الأحاديث والآثار، باب من كان يكبر على الجنازة خمساً، رقم (11454).
([15]) النووي، محي الدين بن شرف، المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج، ط2، دار إحياء التراث العربي، بيروت، لبنان، 15/184.