الإسراء رحلة الاصطفاء
لقد اصطفى الله تعالى الأنبياء عليهم الصلاة والسلام من بين خلقه، فهم سادة الخلق وأكرمهم عنده تعالى، يقول سبحانه وتعالى: (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ ۘ مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللَّهُ ۖ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ) البقرة/ 253، واختار الله تعالى سيدنا محمدا صلى الله عليه وسلم ليكون لهؤلاء الأنبياء تاجاً وزعيماً، فجمع الله تعالى فيه ما تفرق في الأنبياء والأتقياء والأصفياء من معاني الحسن والجمال والكمال، وتولى سبحانه وتعالى تربيته ورعايته، كيف لا والله تعالى يقول: (أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى) الضحى/ 6، وقال هو عن نفسه صلى الله عليه وسلم: (إن اللَّه عز وجل أدبني فأحسن تأديبي)، وآتاه الله تعالى كل المعجزات التي آتاها للأنبياء الآخرين فما من معجزة جرت على يد نبي أو رسول إلا وكان لرسول الله صلى الله عليه وسلم الحظ الأوفر منها، فأعطاه الله تعالى من المعجزات والآيات الباهرات ما لم يعطه لغيره من الأنبياء عليهم الصلاة السلام، وأكد الله تعالى على اصطفائه للنبي صلى الله عليه وسلم في معجزة الإسراء والمعراج وما فيها من دلالات وآيات على رفعة مكانته صلى الله عليه وسلم.
ففي الإسراء والمعراج رفع الله تعالى سيدنا محمداً إلى السموات العلى عند سدرة المنتهى، ففي حين يقول الله تعالى لنبيه آدم وزوجه اهبطوا منها: (قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) البقرة/ 38، فقد أصعد سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم عند سدرة المنتهى منتهى الجنة وآخرها. والتي لم يجاوزها أحد غير رسول الله، وإذا كان ربنا سبحانه وتعالى علم آدم الأسماء كلها، قال تعالى: (وَعَلَّمَ آدَم الْأَسْمَاء كُلّهَا) البقرة/31، فقد أطلع الله نبينا محمد صلى الله عليه وسلم على أمور وغيبيات لم يطلع عليها أحداً من خلقه قال تعالى: (لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا( الإسراء/1.
فَإِنَّ مِنْ جُودِكَ الدُّنْيَا وَضَرَّتَهَا وَمِنْ عُلُومِكَ عِلْمُ اللَّوْحِ وَالقَلَمِ
وإذا كان الله سبحانه وتعالى أكرم سيدنا إبراهيم عليه السلام بأن أراه ملكوت السموات والأرض من عالم الشهادة وهو في الأرض. فقال سبحانه: (وَكَذَٰلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ) الأنعام/75، فقد أكرم سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم بأعظم من ذلك، فقد أراه من آياته الكبرى، ومن عالم الغيب حتى صار عالم الغيب في حقه عليه الصلاة والسلام عالم شهادة، وحين طلب إبراهيم عليه السلام من ربه أن يطلعه على كيفية إحياء الموتى وهو في عالم الشهادة؛ حيث أمره بأخذ الطيور وأن يجعل على كل جبل جزءاً من هذه الطيور فأحيا له الله تعالى طيراً، أما سيدنا محمد صلَّ الله عليه وسلم فلم يطلب من الله تعالى مثل ذلك، ولكن الله سبحانه اصطفاه وكرَّمه، وأحيا له الأنبياء وجمعهم في بيت المقدس وصلى بهم إماماً، والتقى ببعضهم في السماوات، واطلع على بعض أهل الجنة ونعيمهم وعلى بعض أهل النار وجحيمهم، واطلع إلى أحوال أطفال أمَّته، وأنهم تحت رعاية سيدنا إبراهيم عليه السلام، فعوالم الغيب التي أطلع الله عليها سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم أصبحت بالنسبة له عوالمَ شهادة، وحينما يخبر عنها فهو يخبر عن مشاهدة ويقين، وليس فقط مجرد خبر.
ولما طلب سيدنا موسى عليه السلام من ربه أن ينظر إليه: (قَالَ رَبِّ أَرِنِىٓ أَنظُرْ إِلَيْكَ) الأعراف/143، فكان جواب الله سبحانه وتعالى له: (قَالَ لَن تَرَىٰنِى) الأعراف/143، ولكن الله سبحانه وتعالى أكرم سيدنا محمد اًصلى الله عليه وسلم برؤيته عز وجل دون طلب منه ودون حجب.
وكذلك كلم الله سيدنا موسى عليه السلام فقال تعالى: (وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا) النساء/164، وكان هذا التكليم لموسى عليه السلام وهو في الأرض، بخلاف تكليم الله لرسولنا صلى الله عليه وسلم إذ كان دون واسطة ولا ترجمان، حيث رفعه إلى السماوات العلا حتى يكلمه، لا من مكانه في الأرض، وحينما كلم الله موسى أمره أن يخلع نعليه، أما سيدنا محمد فصعد إلى سدرة المنتهى ولم يؤمر بخلع نعليه، وصدق القائل: على رأس هذا الكون علا نعل محمد.
أما سيدنا عيسى عليه السلام الذي قال عنه الله تعالى : أنه أيده بروح القدس إذ قال تعالى: (وَآتِينَا عِيسَى ابْن مَرْيَم الْبَيِّنَات وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُس) البقرة/87، أي بجبريل عليه السلام، فالله سبحانه وتعالى وإن كان قد أيد عيسى بجبريل عليهما السلام، إلا أن سيدنا محمدا قد تجاوز جبريل عليه وسلم إلى منزلة ومكانة لو تقدم إليها جبريل لاحترق، ولما أراد قوم نبي الله عيسى قتله وإلحاق الأذى به رفعه الله إلى السماء الثانية، وكذلك لما ضاقت الأرض على سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وآذاه قومه رفعه الله إلى السماوات العلا إلى سدرة المنتهى، وهي المكانة العلية التي لم تكن لأحد قبله لا لملَك منزل ولا لنبي مرسل.
ونرى من كل ذلك أن الله تعالى قد اصطفى سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم على الأنبياء الكرام وعلى الملائكة العظام، فكانت رحلة الإسراء والمعراج بحق رحلة الاصطفاء.
والحمد لله رب العالمين