الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
بلغ التواضع بعلماء أهل السنة أنهم لا يحدثون الناس عن منزلة الفقهاء عند الله وأثرهم في إبلاغ ما أنزل الله على رسوله، وواجب الأمة تجاههم، وسبب ذلك أن مَن تحدث في هذه المواضيع يُلمز بأنه يريد أن يلفت انتباه الناس إليه، وأن تكون له منزلة في قلوبهم وموقع مناسب في مجتمعهم، إضافة إلى ما بدأت به من أن التواضع خلق محمود، حث عليه الشرع، واتصف به خيرة السلف الصالح، لكن إذا وصل الأمر إلى التعتيم على أمر مهم في الدين فإن السكوت يصبح في غير موضعه.
كل من قرأ كتب السنة يرى أن المحدثين يفردون بابا خاصا يجمعون فيه ما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحث على طلب العلم، والمراد به قطعا العلم الذي تبقى به الرسالة الإسلامية حية بين الناس هدى ورحمة للعالمين، وحجة لله على عباده.
أما بقية العلوم التي تقوم بها حياة الناس المادية، والتي يشاركنا فيها أصحاب الديانات الأخرى فتأتي تبعا؛ لأن المقصود منها بقاء الأمة التي تحمل الإسلام، ووجود مقومات الحياة اللازمة لمن يحمل الإسلام، ولهذا كانت العلوم الحياتية من فروض الكفاية إذا قام بها البعض سقط الإثم عن الجميع.
أما العلوم الشرعية فمنها ما هو فرض عين يجب على كل مسلم أن يعرفه، ولا يعذر أحد في الجهل به، وهو ما تصح به الواجبات الشرعية، سواء كانت من حقوق الله كالعبادات، أو من حقوق العباد كالشروط التي تصح بها المعاملات التي يمارسها الشخص، وهذه العلوم لا يمكن تلقيها إلا من قبل العلماء المختصين بالعلوم الشرعية.
أقول إن الذي ورد في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم في فضل العلم والعلماء والحث على طلب العلم كثير يوحي بأهمية علماء الشريعة في حياة المسلمين ومجتمعهم.
من ذلك قول الله تعالى: (فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) التوبة/122، وقوله تعالى: (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ) الزمر/9 وقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (مَنْ يُرِدْ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ) متفق عليه.
وعلى أرض الواقع الصلاة عماد الدين، وأهم ركن فيه بعد الشهادتين، وصلاة الجماعة مظهر من مظاهر وحدة الأمة الإسلامية، وصلاة الجمعة مؤتمر إسلامي أسبوعي لبحث الشؤون الدينية والدنيوية، المحلية والعامة، وإذا اجتمع الناس لصلاة الجماعة تقدم الإمام على الجميع، ووقف الكل خلفه مهما كانت منازلهم الاجتماعية، وهكذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم يتقدم الصحابة ويتأخرون عنه إذا وقفوا للصلاة، أليس هذا يعني أن الإمام وارث للرسول صلى الله عليه وسلم؟!، وفي صلاة الجمعة يصعد الخطيب أعلى مكان في المسجد ويخطب ولا يجوز لأحد أن يقاطعه أو يتكلم أو يتشاغل عنه بشيء، وهكذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرقى المنبر وينصت الصحابة.
حقا إن الخطيب أيضا وراث للنبي صلى الله عليه وسلم، والمفروض في الإمام والخطيب أن يكون عالما، لا أقول أعلم الحاضرين، لكنه عالم بما يلزم من أحكام شرعية لوقوفه موقف رسول الله صلى الله عليه وسلم.
بالإضافة إلى هذه الأمور المعنوية للوراثة توجد أمور مادية، فقد فرض الله تعالى للنبي صلى الله عليه وسلم خمس خمس الغنائم، قال تعالى: (وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ ) الأنفال/41
وبعد أن لحق الرسول صلى الله عليه وسلم بالرفيق الأعلى لمن تكون حصته من الغنائم والفيء؟
لقد قرر الفقهاء أنها تكون لمن قام بشأن الدين من بعده، وهم العلماء والقضاة والأئمة والمؤذنون وحماة الحدود والقائمون على رعاية المصالح العامة؛ لأن هؤلاء يُحمى بهم الدين، وتُحمى بهم البلاد، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قائما على حفظ الدين والبلاد، وهم ورثته من بعده.
وهذا يعني أمرين:
الأول: أن يكون العلماء على مستوى المسؤولية، علمًا وسلوكا وحكمة، فإن الناس ما رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل رأوا العلماء، وهم يعتقدون أن العلماء يمثلون رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويتصرفون كما كان يتصرف، فليتق الله العالم، فإن قوله وفعله بل وسكوته محسوب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما أثقلها من مسؤولية، وما أعظم أجرها لمن قام بها.
والثاني: أن يحترم المسلمون علماءهم احتراما للرسول صلى الله عليه وسلم، فقد قال صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ مِنْ إِجْلَالِ اللَّهِ إِكْرَامَ ذِي الشَّيْبَةِ الْمُسْلِمِ وَحَامِلِ الْقُرْآنِ غَيْرِ الْغَالِي فِيهِ وَالْجَافِي عَنْهُ وَإِكْرَامَ ذِي السُّلْطَانِ الْمُقْسِطِ) رواه أبو داود.
وكما نشدد على العلماء في وجوب الالتزام بالسلوك اللائق بالأنبياء نقول للناس أن العصمة ليست إلا للأنبياء وما عداهم قد تعثر قدمه فلا يجوز تتبع العثرات والتغاضي عن الحسنات فإن هذا لا يجوز مع المسلم العادي، فكيف بمن يمثلون الإسلام، وقد قيل: ثلاثة لا تذكر هفواتهم: العلماء، وآل البيت، وأهل الحرمين "؛ لأن هؤلاء بشر قد تزل أقدامهم، لكن الطعن فيهم طعن غير مباشر بالإسلام.
ومن هنا نجد أعداء الإسلام يتتبعون هفوات العلماء السابقين والمعاصرين ليصلوا بذلك إلى الطعن في الإسلام، ويقلدهم السذج من المسلمين باسم البحث العلمي والوقوف على الحقيقة، فيؤذون أنفسهم وأمتهم ودينهم وهم لا يشعرون، ومرة أخرى أقول: لا عصمة إلا لنبي أو رسول.
ويجب على العلماء أن يحدثوا الناس عن حرمة العلماء ووجوب إجلالهم، ومعرفة قدرهم، وهذا لا ينافي التواضع المحمود، ولا يعني تعظيم النفس، فقد قال العلماء: النبي هو من أوحي إليه بشرع وإن لم يؤمر بتبليغه، لكن يجب أن يعلم الناس بأنه نبي كي لا يقع به إنسان فيكفر، لأن الوقوع بالأنبياء كفر، وهكذا يجب أن يخبر العالم الناس بحرمة العلماء كي لا يقعوا في أمر كبير، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه: (مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ ) رواه البخاري. وقد قال الشافعي رحمه الله: إذا لم يكن الفقهاء أولياء الله فليس لله ولي.
فاحترام العلماء احترام للدين ووقاية من التعرض لغضب الله تعالى، وما رأينا أحدا وقع في العلماء إلا أخذه الله في الدنيا قبل الآخرة، فلحم العلماء مسموم.
وأضعف الإيمان أن يحترم أهل السنة علماءهم كما يحترم أهل المذاهب الأخرى علماءهم، وأن يجلوهم كما يجل أهل الديانات الأخرى علماء دينهم.
ولقد هانت والله إذ نطالب بهذا، لكنه أضعف الإيمان الذي ما بعده إيمان، ونحن حريصون على إيمان كل مؤمن.