أثر الغبن في عقد البيع
الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد:
عملت الشريعة الإسلامية في كل مفرداتها على المحافظة على الحياة الإنسانية بمنهج حضاري، من خلال محافظتها على الدين والعقل، والنفس، والنسب، والمال.
وسأتطرق هنا لفرعية من فروع الكسب المالي في الإسلام، والذي حدّد له الشرع الشريف طرقاً شرعية دعا فيها إلى ضبط طرق عقود البيع، وأطرافها، وصيغها، ولوازمها وآثارها، وحذر الشرع الشريف من علة كبرى ألا وهي التغرير والخداع في الكسب المالي، يقول تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا) النساء/ 29.
ومن المسائل التي تبحث في هذا الجانب: موضوع تعرض المشتري للغبن عن طريق شرائه السلع بثمن مرتفع، سواء كان ارتفاعاً قليلاً أو ارتفاعاً فاحشاً، وقد يقع هذا بسبب خداع من البائع وربما يكون بدون خداع، وهنا تثار تساؤلات، منها: هل الشرع يجيز فسخ البيع بالغبن؟ وما ضوابط ذلك؟ وما الذي دفع الفقهاء لمناقشة هذا الأمر؟
وكل ذلك سنجيب عليه من خلال:
أولاً: مفهوم الغبن:
الغبن لغة: الْغَيْنُ، وَالْبَاءُ، وَالنُّونُ، كَلِمَةٌ تَدُلُّ عَلَى ضَعْفٍ وَاهْتِضَامٍ. يُقَالُ غُبِنَ الرَّجُلُ فِي بَيْعِهِ، فَهُوَ يُغْبَنُ غَبْنًا، وَذَلِكَ إِذَا اهْتُضِمَ فِيهِ. وَغَبَنَ فِي رَأْيِهِ، وَذَلِكَ إِذَا ضَعُفَ رَأْيُهُ. وَالْقِيَاسُ فِي الْكَلِمَتَيْنِ وَاحِدٌ. [معجم مقاييس اللغة، لابن فارس، 4/ 411].
أمّا في الاصطلاح الشرعي: عندما نتكلم عن حَدّ الغبن، نجد تعريفات لعلماء الشرع، منها:
أ- تعريف القاضي عياض: الْغبن فِي الْبيُوع بِسُكُون الْبَاء إذا أَخذ شَيْئه مِنْهُ بِدُونِ عوضه وَأَصله النَّقْص [مشارق الأنوار على صحاح الآثار للقاضي عياض، 2/ 128].
ب- تعريف الفيومي الغبن بأنه: غَبْنٌ فَاحِشٌ إذَا جَاوَزَتْ الزِّيَادَةُ مَا يُعْتَادُ مِثْلُهُ [المنير في غريب الشرح الكبير للفيومي، 2/ 436].
ج- تعريف ابن عابدين: الْغَبْنَ الْفَاحِشَ مَا لَا يَدْخُلُ تَحْتَ تَقْوِيمِ الْمُقَوِّمِينَ [حاشية ابن عابدين، 1/ 251].
وقد انتهيت بعد التأمل في التعريفات السابقة للغبن إلى تعريفه بما يلي:
فالغبن اصطلاحاً: "انتقاص مالي من حق البائع أو المشتري"، والسبب فيه عدم خبرة كل من البائع والمشتري، بحيث يخرج العقد عن حدود التعامل المثلي المعتاد في العرف التجاري السائد، يرجع في تحديده للعرف ولأهل الخبرة.
وأسباب عدم الخبرة كثيرة:
- كون أحد الأطراف قاصراً كاليتيم، وتصرف وصيه بغبن فاحش لحق به.
- عدم خبرة أحد أطراف العقد بالعرف التجاري، وتقويم الأسعار.
- استخدام أحد أطراف العقد التغرير لتتم الصفقة له.
والغبن اليسير مغتفر، ولا تكاد تخلو منه المعاملات، أما الغبن الفاحش فطريق معرفته العرف والعادة، فأما السادة الحنفية فيضبطون تحديد الفحش بتقويم المقومين فما دخل تحت تقويم المقومين فيسير، وما لا يدخل تحت تقييم المقوميين يعدّ فاحشاً.
ويقصدون بما يدخل تحت تقويم المقومين، ما يتناوله تقدير الخبراء كشراء شيء بعشرة، ثم يقدره خبير بثمانية أو تسعة أو عشرة مثلاً، فهذا غبن يسير.
ويقصدون بما لا يدخل تحت تقويم المقومين، ما لو وقع البيع بعشرة مثلاً، وقال بعض المقومين: إنه يساوي خمسة، وبعضهم ستة وبعضهم سبعة، فهذا غبن فاحش، لأنه لم يدخل تحت تقويم أحد. وقدرته مجلة الأحكام العدلية في مادة (165) عملاً برأي نصر بن يحيى بأنه نصف العشر أي (5%) في العروض التجارية، والعشر أي (10%) في الحيوانات، والخمس أي (20%) في العقار، أو زيادة. [الفقه الإسلامي وأدلته، وهبة الزحيلي، 4/ 576].
ثانياً: حكم الغبن وأثره في العقد:
الأصل في الغبن أنه ممنوع ومحرم ديانة، قال ابن العربي: "الْغَبْنَ فِي الدُّنْيَا مَمْنُوعٌ بِإِجْمَاعٍ فِي حُكْمِ الدُّنْيَا؛ إذْ هُوَ مِنْ بَابِ الْخِدَاعِ الْمُحَرَّمِ شَرْعًا فِي كُلِّ مِلَّةٍ"، [أحكام القرآن لابن العربي، 4/ 261]، لكن ليس كل غبن مؤثر عند الفقهاء، وخاصة عند أهلية المشتري والبائع وعدم ممارسة التغرير، فالأصل نفاذ العقد، قال النووي رحمه الله: "مجرد الغبن، لا يثبت الخيار وإن تفاحش. ولو اشترى زجاجة بثمن كثير يتوهمها جوهرة، فلا خيار له، ولا نظر إلى ما يلحقه من الغبن; لأن التقصير منه حيث لم يراجع أهل الخبرة" [روضة الطالبين للنووي، 3/ 473].
وجاء في [مجلة الأحكام العدلية المادّة 356]: "إذا وجد غبن فاحش في البيع ولم يوجد تغرير; فليس للمغبون أن يفسخ البيع إلا أنه إذا وجد الغبن وحده في مال اليتيم لا يصح البيع ومال الوقف وبيت المال حكمه حكم مال اليتيم".
لكن هناك صور توقف عندها الفقهاء، وبينوا أن للغبن تأثيراً فيها، وذلك حسب التفصيل الآتي:
1- مسألة تلقي الركبان:
في مسألة تلقي الركبان، إن تلقاهم المشتري واشترى منهم السلع، وبان لهم الغبن إذا قدموا السوق، أو قبل ذلك، فلهم الخيار بالغبن فوراً كخيار العيب، أمّا إذا التمس الركبانُ البيعَ، أو كانوا يعلمون السعر الحقيقي، فلا أثر للغبن، جاء في [مغني المحتاج]: "(ولهم الخيار إذا) غبنوا، و(عرفوا الغبن) ولو قبل قدومهم لما رواه البخاري: (لا تلقوا السلع حتى يهبط بها إلى السوق، فمن تلقاها فصاحب السلعة بالخيار) وهو على الفور قياسا على خيار العيب، فإن التمسوا البيع منه ولو مع جهلهم بالسعر، أو لم يغبنوا كأن اشتراه منهم بسعر البلد أو بدونه وهم عالمون فلا خيار لهم؛ لانتفاء المعنى السابق، وكذا لا خيار لهم إذا كان التلقي بعد دخول البلد ولو خارج السوق لإمكان معرفتهم الأسعار من غير المتلقين" [مغني المحتاج للخطيب الشربيني، 2/ 49]، قلت: الحديث الذي اعتمده الشربيني رحمه الله عن البخاري، ذكره البخاري من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، ونصه عن رسول الله صلوات الله عليه: (لاَ يَبِيعُ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ، وَلاَ تَلَقَّوْا السِّلَعَ حَتَّى يُهْبَطَ بِهَا إِلَى السُّوقِ)، هذا ما رواه البخاري بدون زيادة فمن تلقاها فصاحب السلعة بالخيار، وهذه الزيادة ليست عند البخاري لكن لها أصل بالمعنى ذكره مسلم في الصحيح في قَوله عليه السلام: (لَا تَلَقَّوْا الْجَلَبَ، فَمَنْ تَلَقَّاهُ فَاشْتَرَى مِنْهُ، فَإِذَا أَتَى سَيِّدُهُ السُّوقَ، فَهُوَ بِالْخِيَارِ).
وفسخ العقد بالغبن في مسألة تلقي الركبان لم يقصر القول به على الشافعية، فالحنابلة كذلك يثبت الغبن عندهم في مسألة تلقي الركبان، وكذا في مسألة النجش، وفي مسألة بيع المسترسل وهو من لا يحسن المماكسة [المغني لابن قدامة، 3/ 498].
والذي جعل الحنابلة يأخذون بخيار الغبن لمن لا يحسن المماكسة، ما جاء في الحديث عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَنَّ رَجُلًا ذَكَرَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ يُخْدَعُ فِي البُيُوعِ، فَقَالَ: (إِذَا بَايَعْتَ فَقُلْ لاَ خِلاَبَةَ) رواه البخاري ومسلم، قال النووي رحمه الله: "واختلف العلماء في هذا الحديث؛ فجعله بعضهم خاصاً في حقه وأن المغابنة بين المتبايعين لازمة لا خيار للمغبون بسببها سواء قلت أم كثرت وهذا مذهب الشافعي وأبي حنيفة وآخرين وهي أصح الروايتين عن مالك، وقال البغداديون من المالكية للمغبون الخيار لهذا الحديث بشرط أن يبلغ الغبن ثلث القيمة فإن كان دونه فلا، والصحيح الأول؛ لأنه لم يثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم أثبت له الخيار، وإنما قال له قل لا خلابة أي لا خديعة ولا يلزم من هذا ثبوت الخيار، ولأنه لو ثبت أو أثبت له الخيار كانت قضية عين لا عموم لها فلا ينفذ منه إلى غيره إلا بدليل والله أعلم" [شرح النووي على مسلم، 10/ 177].
2- الغبن في تصرف المشرف على المال:
المشرف على المال أمّا أن يكون بحكم ولاية خاصة كالوصي على مال القاصر، أو يكون صاحب إشراف عام كالمسؤول عن الوقف، أو إدارة المال العام، وكل هذه الجوانب يكون التصرف فيها بالأمانة وفعل الأصلح، ولا يتأتى هذا في زماننا إلا بالخطط العلمية التي من الواجب إعدادها وتنفيذها في الأموال، سواء مال القاصر أو المال العام، إذ يجب أن يكون التصرف بحسب الأصلح، قال تعالى: (ويسألونك عَنِ الْيَتامى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ) البقرة /220. ومن هنا نصت (المادة 356) من [مجلة الأحكام]: "إذا وجد غبن فاحش في البيع ولم يوجد تغرير; فليس للمغبون أن يفسخ البيع إلا أنه إذا وجد الغبن وحده في مال اليتيم لا يصح البيع ومال الوقف وبيت المال حكمه حكم مال اليتيم".
وقال ابن عبد البر: "وبيع الآباء والأوصياء وأولياء الحاكم جائز على النظر لمن في حجورهم، وإذا بان الغبن والمحاباة والظلم في بيع واحد من هؤلاء فسخ" [الكافي في فقه في أهل المدينة، ابن عبد البر، 2/ 731].
وقد جاء في القانون المدني الأردني في مادة (149): "لا يفسخ العقد بالغبن الفاحش بلا تغرير إلا في مال المحجور ومال الوقف وأموال الدولة".