مقاصد المعاملات المالية (2)
(من خلال كلام الطاهر بن عاشور في كتابه مقاصد الشريعة الإسلامية)
لقد أبدع الإمام الطاهر بن عاشور في استنباط مقاصد المعاملات المالية في الإسلام، وأوضح ذلك بأصول عامة قررها في كتابه، وشرحها، وبيّنها، وساق الأمثلة عليها، فصارت نبراساً يهتدي به الباحث في فقه المعاملات، وقواعد يعتمد عليها الناظر في المستجدات، فحقّ لكلماته أن تكتب بماء الذهب، وما هذا المقال والذي قبله إلا تلخيص وترتيب لما في مقاصد الطاهر بن عاشور رحمه الله تعالى.
حفظ المال قاعدة كليّة ترجع إلى قسم الضروري، وهي تقوم على نظام نماء المال، وتفعيل طرق دورانه والتي تعتبر مسألة حاجيّة.
والمال حتى يكون مالاً يتقوّم بخمسة أمور:
1. أن يكون ممكناً ادّخاره: لأن ما لا يمكن ادّخاره لا يمكن الانتفاع به وقت الحاجة إليه.
2. أن يكون مرغوباً في تحصيله: ولا تكون الرغبة إلا في تحصيل النافع من الأموال.
3. أن يكون قابلاً للتداول: فما لا يقبل التداول لا رغبة في تحصيله.
4. أن يكون محدود المقدار: فغير محدود المقدار كالبحار والرمال لا وجه للاختصاص فيه، وبالتالي لا يعدّ ثروة.
5. أن يكون مكتسباً: فما ليس مكتسباً لا يكون عظيم النفع كالأمور التي تحصل عفواً مثل التقاط الحشائش لا نفع فيها ولا رغبة في تحصيلها.
والمعاملات المالية بعضها راجع للتملّك، وبعضها راجع للتكسّب:
1. التملك: ويقصد به اقتناء الأشياء كبيع الدار للسكنى، وأسباب التملك ثلاثة:
أ. الاختصاص كإحياء الموات.
ب. العمل كالمغارسة.
ج. التبادل بالعوض كالبيع.
والمرء حرّ التصرّف في ماله ما دام أهلا للتصرّف من غير ضرر بالغير ومن غير تعدٍّ على أحكام الشريعة.
2. التكسّب: ويقصد به معالجة إيجاد ما يسدّ الحاجة إما بعمل البدن، أو بالمراضاة مع الغير، ومن الأمثلة عليه: عقود المشاركات من قراض ومزارعة ومغارسة وغيرها.
وأصول التكسّب ثلاثة:
أ. الأرض: وتشمل كل ما يصل إليه عمل الإنسان في الكرة الأرضية.
ب. العمل: وهو وسيلة استخراج معظم منافع الأرض، وقوامه: سلامة العقل، وصحة البدن.
ت. رأس المال: وهو مال مدّخر لإنفاقه فيما يجلب أرباحاً.
ومقاصد الشريعة في الأموال خمسة:
1. الرواج: ويقصد به دوران المال بين أيدي أكثر من يمكن من الناس بوجه حق، وذلك بالتجارة وغيرها، ويدلّ عليها قوله تعالى: (كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ) الحشر: 7.
ومن وسائل المحافظة على رواج المال:
أ. شُرعت عقود المعاملات لنقل الحقوق المالية بمعاوضة أو تبرّع.
ب. جُعِل الأصل في العقود المالية اللزوم دون التخيير إلا بشرط.
ت. التسامح بشيء من الغرر في بعض العقود كالسلم والاستصناع من باب التسهيل.
ث. إيجاب النفقات كالنفقة على الزوجات، وتشجيع التبرعات والصدقات، وإباحة نفقات التحسين والترفه، وذلك كلّه يساهم في دعم الطبقة الوسطى والدنيا.
ج. تسهيل المعاملات وترجيح جانب المصلحة فيها على ما يمكن أن يعترضها من مفسدة محتملة، ولذلك لم يشترط في التبايع حضور كلا العوضين.
ح. تيسير التعامل بالنقدين (الذهب والفضة) كبديل عن المقايضة، وذلك ليحصل الرواج بهما، وما نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن استعمال الرجال للذهب والفضة إلا لحكمة عدم تعطيل رواج النقدين بكثرة الاقتناء المفضي إلى قلتهما.
2. وضوح الأموال: بإبعادها عن الضرر والتعرّض للخصومات، ولذلك شرع الإشهاد والرهن في التداين.
3. حفظ الأموال: ويقصد به حفظ المال العام والخاص، قال الله تعالى: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ) النساء: 29.
ولقوله صلى الله عليه وسلم: (إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا).
4. إثبات الأموال: بمعنى تقررها لأصحابها بوجه لا خطر فيه ولا يفضي إلى خصومة.
ومقصد الشريعة من ثبات التملك والاكتساب:
أ. اختصاص المالك بما تملكه بوجه صحيح ولذلك شرع الإشهاد، وعلى ذلك انبنت أحكام صحة العقود وحملها على الصحة والوفاء بالشرط وفسخ ما تطرق إليه الفساد.
ب. حرية مالك المال في التصرّف فيه تصرفاً لا ضرر فيه على الغير، ولا اعتداء فيه على أحكام الشريعة.
ت. ألا ينتزع المال من مالكه بدون رضاه، قال صلى الله عليه وسلم: (ليس لعرق ظالم حق).
5. العدل في الأموال: وذلك بأن يكون حصولها بوجه غير ظالم.
ووسائل تحصيل المال المشروعة أربعة:
أ. العمل
ب. بالعوض
ت. بالتبرع
ث. بالإرث
ومن مراعاة العدل في المال:
أ. حفظ المصالح العامة.
ب. دفع الأضرار.
فحرية المرء في التصرّف في أمواله مقيّدة بعدم الإضرار بالغير وبأن لا تتعارض مع الصالح العام.
(بتصرف من كتاب: مقاصد الشريعة الإسلامية، الطاهر بن عاشور، تقديم حاتم بو سمة، دار الكتاب المصري، القاهرة، ودار الكتاب اللبناني، بيروت، ط1، 2011م، ص293-319)