نقض التقسيم الثلاثي للتوحيد
يزعم البعض أن التوحيد يقسم إلى ثلاثة أقسام: توحيد الربوبية والألوهية والأسماء والصّفات، كما زعموا أن الرسل عليهم الصلاة والسلام لم يُبعثوا إلا لتوحيد الألوهية الذي هو إفراد الله تعالى بالعبادة، أما توحيد الربوبية وهو اعتقاد أنّ الله ربّ العالمين فلا خلاف فيه بين المسلمين وغيرهم من المشركين، واستدلّوا على ذلك بقول الله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} [العنكبوت: 61].
وانطلق أصحاب هذا التقسيم لتكفير المسلمين الذين يتوسّلون بالأنبياء والأولياء والصالحين، بحجة أنهم يعبدونهم أي يدعونهم من دون الله، فصاروا كالمشركين الذين لم يكفروا بسبب توحيدهم الربوبية فهم يعتقدون أن الله خالق الكون ومدبره، بل كفروا بتركهم توحيد الألوهية بعبادة غير الله، هذا على حدّ زعمهم.
وإذا تأملنا كتاب ربّنا سبحانه، وسنّة سيّدنا ونبيّنا محمد صلى الله عليه وسلم، وأقوال سلف هذه الأمّة من الصحابة والتابعين وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدّين فإننا لن نجد هذا التقسيم لا بلفظه ولا بمعناه، بل هو بدعة مخترعة لم يعرفها المسلمون حتى القرن السابع الهجري.
والمتأمّل في كتاب الله تعالى وسنّة سيّدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يجد أنّه لا فرق بين الألوهية والربوبية، وأنّ الأمر ليس كما زعم أصحاب التقسيم السابق، بدليل الكتاب والسنة.
ودليل ذلك من الكتاب:
أولاً: قول الله سبحانه: {وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 80]، قال الإمام الطبري في تفسيره: "فتأويل الآية إذًا: وما كان للنبي أن يأمركم، أيها الناس {أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابًا} يعني بذلك آلهة يعبدون من دون الله، كما ليس له أن يقول لهم: كونوا عبادًا لي من دون الله".
ثانياً: قول الله سبحانه حكاية عن سيّدنا يوسف عليه السلام: {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} [يوسف: 39] يقول الإمام الطّبريّ في تفسيره: "ذكر أن يوسف صلوات الله عليه قال هذا القول للفتيين اللذين دخلا معه السجن؛ لأن أحدهما كان مشركًا، فدعاه بهذا القول إلى الإسلام وترك عبادة الآلهة والأوثان" [تفسير الطبري: 16/ 104].
وأضاف الطبري: "وقوله: (أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار) يقول: أعبادة أرباب شتى متفرقين وآلهة لا تنفع ولا تضر، خيرٌ أم عبادة المعبود الواحد الذي لا ثاني له في قدرته وسلطانه، الذي قهر كل شيء فذلّله وسخره، فأطاعه طوعًا وكرهًا" [تفسير الطبري: 16/ 104].
نلحظ كيف تحدّث القرآن الكريم عن تعدد الأرباب عند المشركين ولم يتحدّث عن توحيد الربوبية كما يزعم من قال به، ونلحظ كيف عبّر الطبريّ عن الأرباب بالآلهة واعتبرهما شيئا واحدًا كما هو مفهوم من النصّ.
ثالثاً: في الاستعمال القرآني أيضا حكاية عن فرعون: {فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} [النازعات: 24] هنا ادّعى فرعون الربوبية، وفي آية أخرى يدّعي الألوهية: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص: 38].
قال الإمام الطبري: "عن مجاهد، في قوله: (فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأولَى) قال: هو قوله: (مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي)، وقوله: (أَنَا رَبُّكُمُ الأعْلَى) وكان بينهما أربعون سنة" [تفسير الطبري: 24/ 203].
ويظهر أنه من ادّعى الربوبية فقد ادّعى الألوهية، ومن ادّعى الألوهية فقد ادّعى الربوبية، ولا فرق بينهما في إفادة هذا المعنى.
رابعاً: قول الله تعالى: {يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك} [المائدة: 67] أي من إلهك، ولا فرق بينهما في هذا المعنى.
ودليله من السنة:
أولاً: ما رواه البخاريّ في صحيحه عن أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ، فَقَامَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حُذَافَةَ فَقَالَ: مَنْ أَبِي؟ فَقَالَ: (أَبُوكَ حُذَافَةُ) ثُمَّ أَكْثَرَ أَنْ يَقُولَ: (سَلُونِي) فَبَرَكَ عُمَرُ عَلَى رُكْبَتَيْهِ فَقَالَ: رَضِينَا بِاللَّهِ رَبًّا وَبِالإِسْلاَمِ دِينًا وَبِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَبِيًّا.
ثانياً: وما رواه مسلم في صحيحه عَنِ الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: (ذَاقَ طَعْمَ الْإِيمَانِ مَنْ رَضِيَ بِاللهِ رَبًّا، وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولًا)، وترجم الإمام النووي لهذا الحديث بقوله: (باب الدليل على أنّ من مات على التوحيد دخل الجنّة قطعا) ولم يقل الحديث من رضي بالله إلها بل ربّا.
وجه الشّاهد: أنّ في الحديثين دليلا على صدق التوحيد من خلال ذكر(الربّ)؛ لأنّ الألوهية والربوبية لها نفس المعنى إذ تشير إلى التوحيد، فالإنسان إما أن يكون موّحداً أو لا يكون، أمّا توحيد دون توحيد فبدعة لا أصل لها تقوم عليه.
ثالثاً: روى أبو داود في سننه: (...فَجَلَسَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَلَسْنَا حَوْلَهُ كَأَنَّمَا عَلَى رؤوسنا الطَّيْرُ، وَفِي يَدِهِ عُودٌ يَنْكُتُ بِهِ فِي الْأَرْضِ، فَرَفَعَ رَأْسَهُ، فَقَالَ: (اسْتَعِيذُوا بِاللَّهِ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ) مَرَّتَيْنِ، أَوْ ثَلَاثًا، زَادَ فِي حَدِيثِ جَرِيرٍ (هَاهُنَا) وَقَالَ: (وَإِنَّهُ لَيَسْمَعُ خَفْقَ نِعَالِهِمْ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ حِينَ يُقَالُ لَهُ: يَا هَذَا، مَنْ رَبُّكَ وَمَا دِينُكَ وَمَنْ نَبِيُّكَ؟).
وروى النسائي في سننه: عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة} [إبراهيم: 27] قال: (نزلت في عذاب القبر، يقال له: من ربك؟ فيقول: ربي الله...).
نلحظ أنّ السؤال في القبر عن الرّبّ والرّبوبية التي يزعم أصحاب التقسيم الثلاثي أنه لا خلاف فيه بين المسلمين والمشركين، وذلك ينقض حجتهم من أساسها، لأنّ السؤال عن الربّ أو الإله شيء واحد؛ لأنّه لا أقسام للتوحيد فالشخص إما أن يكون موّحداً أو لا يكون.
فإن قيل: ماذا تقولون في قول الله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} [العنكبوت: 61] وما شابهها من الآيات الكريمات؟
فالجواب: لقد آمن المشركون بوجود الله تعالى وقدرته على خلقهم وخلق السماوات والأرض مع إنكارهم قدرته على البعث، وهم في ذات الوقت مؤمنون بأن آلهتهم شريكة لله تعالى في كل ما يقدر عليه، فليسوا موحّدين كما ادّعى أصحاب التقسيم الثلاثي، بل هم مشركون، لذلك قال ربّنا تعالى فيهم: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [يوسف: 106]، فهم يحملون إيماناً مبناه على الشرك لا توحيد فيه، فكيف يوصف هذا الإيمان المشوب بالشرك بالتوحيد؟ ففي وصفهم (بتوحيد الربوبية) خطأ فاحش ومناقضة لصريح كتاب ربنا سبحانه.
روى الإمام الطبري في تفسيره: "عن ابن زيد يقول: (وما يؤمن أكثرهم بالله) الآية، قال: ليس أحدٌ يعبد مع الله غيره إلا وهو مؤمن بالله، ويعرف أن الله ربه، وأن الله خالقه ورازقه، وهو يشرك به. ألا ترى كيف قال إبراهيم: (أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ * أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الأَقْدَمُونَ * فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلا رَبَّ الْعَالَمِينَ) [الشعراء: 75-77]، قد عرف أنهم يعبدون رب العالمين مع ما يعبدون. قال: فليس أحد يشرك به إلا وهو مؤمن به. ألا ترى كيف كانت العرب تلبِّي تقول: "لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك، إلا شريك هو لك، تملكه وما ملك".
وعن قتادة قوله: (وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون) في إيمانهم هذا. إنك لست تلقى أحدًا منهم إلا أنبأك أن الله ربه، وهو الذي خلقه ورزقه وهو مشرك في عبادته. وعن مجاهد قال: إيمانهم قولُهم: الله خالقنا، ويرزقنا ويميتنا.
قال عكرمة: (وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون) قال: من إيمانهم إذا قيل لهم: من خلق السماوات؟ قالوا: الله. وإذا سئلوا: من خلقهم؟ قالوا: الله. وهم يشركون به بَعْدُ.
قال البيضاوي: وما يؤمن أكثرهم بالله في إقرارهم بوجوده وخالقيته إلا وهم مشركون بعبادة غيره أو باتخاذ الأحبار أربابا. ونسبة التبني إليه تعالى، أو القول بالنور والظلمة أو النظر إلى الأسباب ونحو ذلك. وقيل الآية في مشركي مكة، وقيل في المنافقين. وقيل في أهل الكتاب.
والشاهد من كل ما سبق: أنّ المشركين يؤمنون بوجود الله ولكنهم يشركون معه غيره، فيعبدون الشركاء كما يعبدون الله، ويزعمون أنّ ذلك يقرّبهم إلى الله، ففهم أصحاب التقسيم الثلاثي أنّ إيمان المشركين المشوب بالشرك توحيد ربوبية، وهو ليس من التوحيد في شيء بل هو تصديق بوجود الإله، إذ كيف يشركون به لولا أنهم يؤمنون بوجوده، لكنهم يؤمنون أيضا بأنّ مع الله آلهة أخرى يعبدونها ويشركون بها، لذلك أمر الله تعالى سيدنا محمدا صلى الله عليه وسلم أن يقول: {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُلْ لَا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ } [الأنعام: 19].
وقال سبحانه: {وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الأنعام: 150]، يقول الإمام الطبري: "يقول: وهم مع تكذيبهم بالبعث بعد الممات، وجحودهم قيام الساعة، بالله يعدلون الأوثانَ والأصنامَ، فيجعلونها له عِدْلا ويتخذونها له ندًّا يعبدونها من دونه" [تفسير الطبري: 12/ 214].
والحاصل:
أولاً: التقسيم الثلاثي للتوحيد مبتدع لا أصل له في كتاب أو سنة أو عند سلف الأمة.
ثانياً: الألوهية والربوبية تستعملان بمعنى واحد في الكتاب والسنّة وكلام سلف الأمة.
ثالثاً: لا يوجد توحيدٌ دون توحيد، فالإنسان إما موّحد أو مشرك، فهما ضدّان لا يجتمعان.
رابعاً: كلّ موحّد لله تعالى مؤمن بوجوده، وليس كلّ مؤمن بوجود الله تعالى موحّدا له بالضرورة.
خامساً: آمن المشركون بوجود الله تعالى إيماناً مشوباً بالشرك كما وصف ربّنا سبحانه، فسمّاه أصحاب التقسيم الثلاثي توحيداً للربوبية، وفي ذلك مناقضة للنصّ القرآني.
سادساً: يحمل المشركون في صدورهم إيماناً بوجود الله مغلفاً بالشرك، وتكذيباً للرسل والكتب، وإنكاراً لليوم الآخر والبعث، ويصفون الملائكة أنهم إناث، فلم يحققوا ركناً واحداً من أركان الإيمان الذي ينجيهم عند الله تعالى، ثم يقال: إن مشكلتهم في (توحيد الألوهية) المزعوم؟
سابعاً: تكمن خطورة التقسيم السابق في جعل المشركين من أهل توحيد الربوبية على الرغم أنهم لم يشمّوا للتوحيد رائحة، ولم يعرفوا لصحيح الإيمان طريقاً، وفي هذا مناقضة لما في الكتاب والسنة، بالإضافة إلى أنّ أصحاب هذا التقسيم المغلوط قد جعلوه أصلاً يستندون إليه في تكفير المسلمين بسبب مخالفتهم لهم في مسائل فقهية فرعية كالتوسل بالأنبياء والصالحين وغيرها مما يعتبر مسائل فقهية محضة لا دخل للعقيدة الإسلامية فيها.