من فقهيات شهر شوال
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
الزمان من خلق الله تعالى، واقتضت حكمته تعالى تقسيم السنة إلى اثني عشر شهراً، لقوله تعالى: (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ) التوبة/36. وكان منها شهر شوال، وأصل كلمة شوال كما يقول ابن منظور: "مأخوذ من الشّول بمعنى الارتفاع، ومنه شالت الناقة امتنعت عن البعير فلا تدعه يطأها". [ابن منظور لسان العرب 1 /501].
وقد اختصه الله تعالى بأحكام عدة نتوقف مع أهمها بشكل موجز في هذا المقال بإذنه تعالى:
أولاً : ثبوت هلال شوال هو إيذان بانتهاء شهر رمضان
فشوال هو الشهر الذي يلي شهر رمضان فلذلك كان لثبوت هلاله أهمية كبيرة لانتهاء شهر رمضان؛ لما روى ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ذكر رمضان فقال: (لَا تَصُومُوا حَتَّى تَرَوُا الْهِلَالَ، وَلَا تُفْطِرُوا حَتَّى تَرَوْهُ، فَإِنْ أُغْمِيَ عَلَيْكُمْ فَاقْدِرُوا لَهُ) متفق عليه.
ويثبت هلال شهر شوال إما بشهادة عدلين كحد أدنى كما ذكر الفقهاء. [عمدة السالك 1 /163] أو بإكمال عدة رمضان ثلاثين يوماً.
ثانياً: استحباب التكبير
يستحب للمسلم التكبير عند ثبوت هلال شهر شوال، فقد واظب عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم والصحابة رضوان الله عليهم، وقد قال الله تعالى: (وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) البقرة/185.
ويبدأ التكبير في عيد الفطر من غروب شمس آخر يوم من رمضان "ليلة العيد" أو من ثبوت رؤية هلال شوال، وينتهي وقت التكبير بالشروع في صلاة العيد، ويباح التكبير بشكل فردي أو جماعي، والمناسب لهذه الشعيرة أن تكون على وتيرة واحدة ومنتظمة من قبل الناس؛ لأن التكبير الجماعي أقوى وأعلى صوتاً، وأوقع في النفس من أن يكبر كل شخص وحده، وأحرى ألا يقع الاضطراب والتشويش بسبب اختلاف الأصوات وتعارضها إذا لم يكن بصوت واحد، فقد قال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى: "إذا رأوا هلال شوال أحببت أن يكبر الناس جماعة وفرادى في المسجد والأسواق والطرق والمنازل، ومسافرين ومقيمين، في كل حال، وأين كانوا، وأن يظهروا التكبير". [الأم 1 /230].
ثالثاً: استحباب قيام ليلة العيد
يستحب للمسلم إحياء ليلتي العيدين –الفطر والأضحى- بالطاعة سواء بصلاة أو غيرها من الطاعات، فقد ورد فيها بعض الأحاديث منها ما رواه أبي أمامه عن النبي صلى الله عليه وسلم: (مَنْ قَامَ لَيْلَتَيِ الْعِيدَيْنِ مُحْتَسِبًا لِلَّهِ لَمْ يَمُتْ قَلْبُهُ يَوْمَ تَمُوتُ الْقُلُوبُ). رواه ابن ماجه، وقال عنه العلماء: أنه حديث ضعيف.
يقول الإمام النووي رحمه الله تعالى: "قال أصحابنا يستحب إحياء ليلتي العيدين بصلاة أو غيرها من الطاعات واحتج له أصحابنا بحديث أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم (من أحيا ليلتي العيد لم يمت قلبه يوم تموت القلوب) وفي رواية الشافعي وابن ماجه: (مَنْ قَامَ لَيْلَتَيِ الْعِيدَيْنِ مُحْتَسِبًا لِلَّهِ لَمْ يَمُتْ قَلْبُهُ يَوْمَ تَمُوتُ الْقُلُوبُ) رواه عن أبى الدرداء موقوفا وروى من رواية أبى إمامة موقوفا عليه ومرفوعا كما سبق وأسانيد الجميع ضعيفة... واستحب الشافعي والأصحاب الإحياء المذكور مع أن الحديث ضعيف لما سبق من أن أحاديث الفضائل يتسامح فيها ويعمل على وفق ضعيفها، والصحيح أن فضيلة هذا الإحياء لا تحصل إلا بمعظم". [المجموع شرح المهذب 5 /42]. بتصرف يسير.
رابعاً: إخراج صدقة الفطر
ومن الأحكام المرتبطة بشهر شوال وجوب إخراج صدقة الفطر بمجرد ثبوت شهر شوال على المسلم الذي يملك قوته وقوت عياله يوم العيد، ولديه فائض عن حوائجه الأصلية، يدفعها عن نفسه، وعمن تجب عليه نفقته من المسلمين من زوجة وولد صغير وأب وأم فقيرين، فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (فَرَضَ زَكَاةَ الْفِطْرِ مِنْ رَمَضَانَ عَلَى النَّاسِ، صَاعًا مِنْ تَمْرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ، عَلَى كُلِّ حُرٍّ أَوْ عَبْدٍ، ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى، مِنْ الْمُسْلِمِينَ). متفق عليه.
والأفضل إخراجها قبل صلاة العيد، ويكره تأخيرها إلى بعد الصلاة، ويحرم تأخيرها عن يوم العيد دون عذر، يقول الخطيب الشربيني رحمه الله تعالى: "ويكره تأخيرها عن الصلاة، ويحرم تأخيرها عن يومه -أي العيد- بلا عذر، كغيبة ماله أو المستحقين، لفوات المعنى المقصود، وهو اغتناؤهم عن الطلب في يوم السرور، فلو أخر بلا عذر عصى وقضى لخروج الوقت على الفور لتأخيره من غير عذر". [مغني المحتاج 5 /65].
خامساً: صلاة العيد
صلاة عيد الفطر سنة مؤكدة، لقوله تعالى: (فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ). الكوثر/2. ويسن صلاتها جماعة وتشرع للمنفرد والعبد والمرأة والمسافر أيضاً، ولا يشترط فيها ما يشترط في الجمعة من العدد والجماعة، ووقتها من طلوع شمس أول أيام شهر شوال، وهي ركعتان يكبر في الأولى بعد الاستفتاح وقبل التعوذ سبع تكبيرات، وفي الثانية قبل التعوذ خمساً غير تكبيرة القيام، يرفع فيها اليدين، ويذكر الله تعالى بينهن، ويضع اليمنى على اليسرى، ولو ترك التكبير أو زاد فيه لم يسجد للسهو، ولو نسيه وشرع في التعوذ فات، ثم يخطب بعدهما خطبتين كالجمعة، ويفتتح الأولى ندباً بتسع تكبيرات والثانية بسبع، ولو خطب قاعداً جاز. [عمدة السالك 1 /84-85].
ومن فاتته صلاة العيد مع الإمام صلاها وحده وكانت أداء ما لم تزل الشمس يوم العيد وأما من لم يصل حتى زالت الشمس فقد فاتته، ويسن له قضاؤها. [عمدة السالك 1 /84-85].
سادساً: صيام ست من شوال
يسن للمسلم صيام ست أيام من شوال بعد رمضان؛ لما رواه أبو أيوب الأنصاري رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم: (مَنْ صَامَ رَمَضَانَ ثُمَّ أَتْبَعَهُ سِتًّا مِنْ شوال، كَانَ كَصِيَامِ الدَّهْرِ). رواه مسلم.
والأفضل صيامها متتابعة، بدءً من ثاني أيام شهر شوال، ويجوز صيامها متفرقة، ومن نوى صيامها مع قضاء ما عليه من صيام تحقق له أجر سنّة صيام شوال، ولكن لا ينال أجر صيام الدهر؛ لأن أجر صيام الدهر يتحقق لمن يصوم رمضان كاملاً، ويضيف إليه ستة أيام من شوال، والحسنة بعشر أمثالها، فيحصل له أجر صيام سنة كاملة، لذلك فالأفضل فصل القضاء عن الست من شوال كل بأيام مستقلة. [مغني المحتاج 5 /310].
ويجوز تقديم صيامها على القضاء إن كان الإفطار بعذر؛ لأنّ الإفطار إذا كان بعذر كان القضاء على التراخي في شوال وغيره، وإن كان الإفطار بلا عذر وجبت المبادرة إلى القضاء فوراً بعد العيد وقبل صيام الست من شوال، لكن لو صام الست جاز، ووجب عليه قضاء ما فاته من الصيام بعد ذلك.
جاء في [حاشية إعانة الطالبين2 /262]: "يجب قضاء ما فات ولو بعذر من الصوم الواجب: أي على الفور إن فات بغير عذر، وعلى التراخي إن فات بعذر" انتهى
سابعاً: شوال من أشهر الحج
للحج أشهر معلومة يجوز للحاج فيه أن يهل بالحج؛ لقوله تعالى: (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ) الحج/197.
وتبدأ هذه الأشهر من أول يوم من شهر شوال وتستمر حتى العاشر من ذي الحجة.
يقول الخطيب الشربيني: "وقت إحرام الحج لمكي أو غيره شوال وذو القعدة...وعشر ليال بالأيام بينها وهي تسعة من ذي الحجة". [مغني المحتاج 5 /423].
ثامناً: إباحة الزواج في شوال
من المعتقدات الخاطئة عند بعض الناس كراهة عقد الزواج أو الدخول بين العيدين، وهذه الاعتقادات لا أصل لها في الشرع، وهو من اعتقادات الجاهلية، بل استحب بعض العلماء الزواج في شوال، وهو يقع بين العيدين، لما ثبت في الحديث عن عائشة رضي الله عنها قالت: (تَزَوَّجَنِي رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي شَوَّالٍ، وَبَنَى بِي فِي شَوَّالٍ، فَأَيُّ نِسَاءِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ أَحْظَى عِنْدَهُ مِنِّي؟، قَالَ: وَكَانَتْ عَائِشَةُ تَسْتَحِبُّ أَنْ تُدْخِلَ نِسَاءَهَا فِي شَوَّالٍ). متفق عليه.
قال النووي رحمه الله تعالى: "فيه استحباب التزويج والتزوج والدخول في شوال، وقد نص أصحابنا على استحبابه، واستدلوا بهذا الحديث، وقصدت عائشة بهذا الكلام رد ما كانت الجاهلية عليه، وما يتخيله بعض العوام اليوم من كراهة التزوج والتزويج والدخول في شوال، وهذا باطل لا أصل له، وهو من آثار الجاهلية، كانوا يتطيرون بذلك لما في اسم شوال من الإشالة والرفع". [النووي المجموع 5 /43].
وبعد هذا العرض الموجز لأهم أحكام شهر شوال، فالواجب على كل مسلم اغتنام هذا الشهر بفعل الطاعة، والاستزادة من الحسنات، ونسأل الله عز وجل أن ينفعنا بما علمنا، وأن يعلمنا ما ينفعنا، إنه على ذلك قدير.