الترفق بالمستفتي
الحمد لله ربِّ العالمين، الحمد لله الذي بعث أنبياءه رحمة للعالمين، والصلاة والسلام على خاتم المرسلين، وإمام الأنبياء أجمعين، أشرف وأكرم من سار على الثرى جعل الله تعالى به هذه الأمة هداة مهديين لا ضالين ولا مضلين، دعاة خيرٍ لربِّ العالمين، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
يقول النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه الإمام مسلم في صحيحه من حديث السيدة عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (يَا عَائِشَةُ، إِنَّ اللهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ، وَيُعْطِي عَلَى الرِّفْقِ مَا لَا يُعْطِي عَلَى الْعُنْفِ، وَمَا لَا يُعْطِي عَلَى مَا سِوَاهُ)، وقال كذلك فيما رواه أبو داود في سننه من حديث عبد الله بن مُغفل رضي الله عنه: (إِنَّ اللَّهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ، وَيُعْطِي عَلَيْهِ مَا لَا يُعْطِي عَلَى الْعُنْفِ).
وانطلاقاً من هذه التوجيهات النبوية الكريمة؛ فإن دائرة الإفتاء العام في المملكة الأردنية الهاشمية تحرص كل الحرص في تعاملها مع جمهور المستفتين سواء في داخل المملكة أم خارجها على تقديم فتواها مصحوبة بالرفق والمودة والرحمة والشفقة على المستفتي، والمبالغة في بذل المشورة وإسداء النصح له، مع الحرص التام على احترام شخص المستفتي بغض النظر عن منزلته أو مستواه التعليمي، والمحافظة على سريّة معلوماته.
وهذه السياسة الحكيمة التي تنتهجها دائرة الإفتاء العام وتعاملها بهذا الشكل من الرفق واللين مع جمهور المستفتين يظهر ذلك جلياً في كل الأدوات والقنوات المستخدمة في الدائرة لتقديم الفتوى للمستفتين، سواء كان ذلك من خلال الاتصالات الهاتفية أم من خلال المقابلات الشخصية أم من خلال الرسائل الإلكترونية التي تتم بواسطة الموقع الإلكتروني للدائرة.
وكيف لا يكون منهج الدائرة كذلك وهي التي تسترشد بالهدي النبوي الشريف والذي يؤكد فيه النبي صلى الله عليه وسلم من خلال أقواله وأفعاله على الرفق واللين في التعامل مع الناس، فتوجيهاته النبوية صلى الله عليه وسلم تُحَتّم على كل متصدٍ للدعوة إلى الله تعالى أن يجعل من الرفق واللين سبيلاً لدعوته، فالله تعالى يقول: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) النحل/ 125، بل كان المصطفى صلى الله عليه وسلم يحرص على أن يوجه أهل بيته إلى الأخذ بالرفق واللين في تعاملهم مع الناس، فنراه صلى الله عليه وسلم يوجه زوجته السيدة عائشة رضي الله عنها بقوله: (مهلاً يا عائشة؛ عَلَيْكِ بِالرِّفْقِ، وَإِيَّاكِ وَالعُنْفَ وَالفُحْشَ) رواه البخاري، ويقول لها كذلك: (يَا عَائِشَةُ، ارْفُقِي، فَإِنَّ اللهَ إِذَا أَرَادَ بِأَهْلِ بَيْتٍ خَيْرًا، دَلَّهُمْ عَلَى بَابِ الرِّفْقِ) رواه أحمد، وفي هذا توجيه نبوي لطيف إلى أن الرفق إنما هو أمر تربوي ينبغي على الآباء والأمهات أن يُنشئوا أبناءهم عليه، فالطفل الذي ينشأ في بيتٍ ملؤه المحبة والمودة والرفق والعطف والتسامح يخرج للمجتمع شخصاً رفيقاً متسامحاً، والذي ينشأ في بيتٍ فيه قسوة وعنف وضرب وشتم، فلا شك أننا سنلمس منه في مستقبل أيامه عنفاً وغلظةً وشدةً، وهذا ما يُعرف بالعنف الأسري الذي تحذر منه مؤسسات ومنظمات تُعنى بحقوق الطفل والمرأة.
ولا شك أن العنف الأسري سيولد ما يُعرف بالعنف المدرسي ثم العنف الجامعي ويتطور الأمر إلى العنف الاجتماعي.
لذلك؛ فإن الرفق واللين وخاصة من جانب الدعاة إلى الله تعالى أمر مهم في نجاح دعوتهم والتفاف الناس حولهم، يقول الله تعالى: (وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ) آل عمران/ 159، ففي هذه الآية الكريمة توجيه حكيم لكل داعية أن يجعل من الرفق في دعوته وفي فتواه وفي نصيحته التي يُسديها للمدعو، أقول أن يجعل من الرفق هادياً ومرشداً وطريقاً إلى قلوب العباد، فإن الناس يُقبلون على مَن يرفق بهم ويلتفون حوله ويسمعون له، وأما مَن يُعنفهم ويُنقص من قدرهم ويغلظ عليهم فإنهم ينفرون منه ويبتعدون عنه، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ لِلَّهِ آنِيَةً مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ وَآنِيَةُ رَبِّكُمْ قُلُوبُ عِبَادِهِ الصَّالِحِينَ, وَأَحَبُّهَا إِلَيْهِ أَلْيَنُهَا وَأَرَقُّهَا) أخرجه الطبراني.
هذا وكان النبي صلى الله عليه وسلم مثالاً عظيماً لتطبيق هذا المبدأ العظيم مبدأ الرفق مع المدعوين قولاً وفعلاً، ففي الصحيحين من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: أَنَّ أَعْرَابِيًّا بَالَ فِي المَسْجِدِ، فَقَامُوا إِلَيْهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لاَ تُزْرِمُوهُ) ثُمَّ دَعَا بِدَلْوٍ مِنْ مَاءٍ فَصُبَّ عَلَيْهِ. رواه البخاري.
ومثال آخر عن أبي أمامة رضي الله عنه يَقُولُ: أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غُلَامٌ شَابٌّ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ائْذَنْ لِي فِي الزِّنَا، فَصَاحَ بِهِ النَّاسُ، وَقَالُوا: مَهْ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (ذَرُوهُ، ادْنُ)، فَدَنَا حَتَّى جَلَسَ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: (أَتُحِبُّهُ لِأُمِّكَ؟) قَالَ: لَا، قَالَ: (فَكَذَلِكَ النَّاسُ لَا يُحِبُّونَهُ لِأُمَّهَاتِهِمْ، أَتُحِبُّهُ لِابْنَتِكَ؟) قَالَ: لَا قَالَ: (وَكَذَلِكَ النَّاسُ لَا يُحِبُّونَهُ لِبَنَاتِهِمْ، أَتُحِبُّهُ لِأُخْتِكَ؟) قَالَ: لَا، قَالَ: (فَكَذَلِكَ النَّاسُ لَا يُحِبُّونَهُ لِأَخَوَاتِهِمْ، أَتُحِبُّهُ لِعَمَّتِكَ؟) قَالَ: لَا، قَالَ: (فَكَذَلِكَ النَّاسُ لَا يُحِبُّونَهُ لِعَمَّاتِهِمْ، أَتُحِبُّهُ لِخَالَتِكَ؟) قَالَ: لَا، قَالَ: (وَكَذَلِكَ النَّاسُ لَا يُحِبُّونَهُ لِخَالَاتِهِمْ، فَاكْرَهْ لَهُمْ مَا تَكْرَهُ لِنَفْسِكَ، وَأَحِبَّ لَهُمْ مَا تُحِبُّ لِنَفْسِكَ)، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ادْعُ اللَّهَ أَنْ يُطَهِّرَ قَلْبِي، فَوَضَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدَهُ عَلَى صَدْرِهِ فَقَالَ: (اللَّهُمَّ أَغْفِرْ ذَنْبَهُ، وَطَهِّرْ قَلْبَهُ، وَحَصِّنْ فَرْجَهُ)، قَالَ: فَلَمْ يَكُنْ بَعْدَ ذَلِكَ يَلْتَفِتُ إِلَى شَيْءٍ. أخرجه الطبراني.
والناظر في هذين المثالين العمليين يرى عجباً من صنيع المصطفى صلى الله عليه وسلم كيف أنه لم يزجر أياً منهما، ولم ينل من واحد لا بقولٍ ولا بفعلٍ، بل نهى الصحابة الكرام أن يتعرضوا لهما بأذى.
وفي قصة معاوية بن الحكم السلمي رضي الله عنه مثال واضح على رفقه صلى الله عليه وسلم بالجاهل، فقال رضي الله عنه: بَيْنَما أَنَا أُصَلِّي مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِذْ عَطَسَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ، فَقُلْتُ: يَرْحَمُكَ اللهُ فَرَمَانِي الْقَوْمُ بِأَبْصَارِهِمْ، فَقُلْتُ: وَاثُكْلَ أُمِّيَاهْ، مَا شَأْنُكُمْ؟ تَنْظُرُونَ إِلَيَّ، فَجَعَلُوا يَضْرِبُونَ بِأَيْدِيهِمْ عَلَى أَفْخَاذِهِمْ، فَلَمَّا رَأَيْتُهُمْ يُصَمِّتُونَنِي سَكَتُّ، فَلَمَّا صَلَّى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَبِأَبِي هُوَ وَأُمِّي، مَا رَأَيْتُ مُعَلِّمًا قَبْلَهُ وَلَا بَعْدَهُ أَحْسَنَ تَعْلِيمًا مِنْهُ، فَوَاللهِ، مَا كَهَرَنِي وَلَا ضَرَبَنِي وَلَا شَتَمَنِي، قَالَ: (إِنَّ هَذِهِ الصَّلَاةَ لَا يَصْلُحُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ كَلَامِ النَّاسِ، إِنَّمَا هُوَ التَّسْبِيحُ وَالتَّكْبِيرُ وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ)رواه مسلم.
بل أكثر من ذلك وأعظم ذلك الموقف الشهير يوم أن وقف صلى الله عليه وسلم على باب الكعبة يوم فتح مكة وأمامه حشود قريش وهو المنتصر الفاتح وهم الذين لم يألوا جهداً في قتاله ومعاداته وإخراجه من أحب البقاع إليه، وقف صلى الله عليه وسلم وقال لهم: (ما ترون أني فاعل بكم)؟ قالوا أخ كريم وابن أخٍ كريم قال: (اذهبوا فأنتم الطلقاء) [سيرة ابن هشام 2/412].
لم يقتل صلى الله عليه وسلم لم يُعذب لم ينتقم لم يوبخ أو يُعاتب لو بكلمة بسيطة، لذلك فعلى كل من يقلب صفحات حياة المصطفى صلى الله عليه وسلم أن يقتدي به في أسلوب دعوته، ذلك الأسلوب القائم على الرفق واللين والدعوة إلى الله تعالى بالحكمة والموعظة الحسنة.
وفي هذا المقام الذي نتحدث فيه عمّا يجب أن يكون عليه المفتي والداعي إلى الله تعالى من الرفق بالمستفتي والتلطف معه؛ نستذكر قصة الحديث الشريف الذي أخرجه مسلم في الصحيح ، حيث ذكر فيها الرجل الذي قتل تسعة وتسعين نفساً، وكيف أنه أراد أن يتوب فسأل عن أعلم أهل الأرض فدُل على راهبٍ، ولكن هذا الراهب لم يكن أهلاً للدعوة إلى الله تعالى فزجره ووبخه وقال له لا توبة لك، وقنّطه من رحمة الله تعالى فما كان من هذا الرجل القاتل إلا أن قتله فأكمل به مائة، ثم يشرق نور الهداية في قلبه بعد حين ويرغب بالتوبة، فيسأل عن أعلم أهل الأرض، فيُدل على رجل عالمٍ، فيأتيه فيقص عليه ما كان من أمره، وكيف أنه قتل كل هذه النفوس ظلماً وعدواناً، ويسأله هل لي من توبة؟ فتكون الإجابة من هذا العالم المُدرك لسعة رحمة الله تعالى فيقول له: ويحك ومن يحول بينك وبين رحمة الله، فينطلق هذا الرجل من عند العالم تائباً، ثم يقبض الله روحه بعد ذلك، وهو مقبل عليه.
وبعد هذا نقول: يجب على مَن يتصدى للفتوى أن يستمع للمستفتي وينصت إليه ويُشعره باهتمامه بأمره وانتباهه لسؤاله، ويُظهر له الاحترام خاصة وأنه يسأل عن أحكام دينه، ثم يُجيبه على سؤاله ويوجهه إلى ما يجب عليه أن يقوم به مما يكون خيراً له في عاجل أمره وآجله، ولا شك أن هذا كله داخل في عموم قوله صلى الله عليه وسلم: (الدين النصيحة) رواه البخاري.
والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.