التطرّف
سماحة المفتي العام الشيخ عبد الكريم الخصاونة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الخلق والمرسلين، سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وعلى آله الأطهار، وبعد.
نهى الإسلام عن التطرّف، وشدد في النهي، واعتبر المتطرفين على غير منهج المسلمين وطريقتهم، لأنهم رغبوا عن سَنن الإسلام وشددوا في فرائضه، فقد قال صلى الله عليه وسلم للرهط الذين سألوا عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم وكأنهم تقالّوها، فقالوا: أين نحن من رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فقال أحدهم: أما أنا فأقوم الليل ولا أرقد، وقال الثاني: أما أنا فأصوم الدهر ولا أفطر، وقال الثالث: أما أنا فأعتزل النساء ولا أتزوج فلما سمع بكلامهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (أما أنا فأصلي وأرقد, وأصوم وأفطر وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني).
هذه المغالاة في العبادة تعتبر تطرفا وتشددا؛ قال صلى الله عليه وسلم: (هلك المتنطعون) قال الإمام النووي: المتنطعون هم المتشددون في غير موضع التشديد فالتنطع والتشدد مرادفات التطرف، ومن تشدد شدد الله عليه، قال صلى الله عليه وسلم: (لا تشددوا على أنفسكم فيشدد عليكم فإن قوما شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم).
فكل من ينقل الناس من اليسر إلى العسر أو من الوسع إلى الضيق ومن الفرج إلى الحرج فهو متطرف متشدد، ويخالف المنهج الرباني مخالفة شديدة؛ لأن المتطرف ينقل الناس من الترخيص والتيسير إلى التعسير، والله تعالى يقول: (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) البقرة/ 185.
فالله تعالى ما جعل علينا في هذا الدين من ضيق ولا مشقة ولا حرج، ولم يكلفنا ما لا نطيقه، بل جاء الإسلام بالحنيفية السمحة، فالحرج مرفوع عن الأمة قال الله تعالى: (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) قال الشاطبي رحمه الله: اعلم أن الحرج مرفوع عن المكلف لوجهين: أحدهما الخوف من الانقطاع عن الطريق، وبغض العبادة وكراهية التكليف، وينتظم تحت هذا المعنى الخوف من إدخال الفساد عليه في جسمه أو عقله أو ماله أو حاله.
والثاني خوف التقصير عند مزاحمة الوظائف المتعلقة بالعبد المختلفة الأنواع مثل: قيامه على ولده وأهله إلى تكاليف أخرى تأتي في الطريق، فربما كان التوغل في بعض الأعمال شاغلا عنها وقاطعا بالمكلف دونها، وربما أراد الحمل للطرفين على المبالغة في الاستقصاء فانقطع عنهما.
فأما الأول: فإن الله وضع هذه الشريعة المباركة حنيفة سمحة سهلة حفظ فيها على الخلق قلوبهم وحببها لهم بذلك, فلو عملوا على خلاف السماح والسهولة لدخل عليهم فيما كلفوا به ما لا تخلص به أعمالهم ألا ترى إلى قوله تعالى: (وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ) الحجرات/ 7.
فقد أخبرت الآية أن الله حبب إلينا الإيمان بتيسيره وتسهيله، وزينه في قلوبنا بذلك وبالوعد الصادق بالجزاء عليه، فعليكم من الأعمال ما تطيقون فإن الله لا يمل حتى تملّوا.
ومن المؤلم أن المتطرفين اعتقدوا أن التشدد هو الأصل وأما التيسير فليس من الإسلام في شيء، وظنوا أن قولهم هو الفصل ورأيهم هو السديد؛ فعاملوا الناس بالغلظة والفظاظة، ونصبوا أنفسهم وبالوصاية والولاية على المسلمين، مخالفين قول الله عز وجل: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) النحل/ 125. قال الإمام علي رضي الله عنه : (الفقيه كل الفقيه من لم يقنّط الناس من رحمة الله و لم يرخص لهم في معاصي الله).
لكن المتطرفين لم يقتدوا بالرسول صلى الله عليه وسلم وأساءوا الظن بالناس، ووصفوا من خالفهم بالكفر والضلال، وسلبوا الإيمان والهدى عنهم وأخرجوهم من جادة الشريعة السمحة، ودين الرحمة، فاستباحوا الدماء، والأموال والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض.
وحل هذه الأزمة ليس صعبا؛ فإن أبناءنا يعرفون أن الدين صالح لكل زمان ومكان يتعامل مع التعددية الدينية والثقافية والجنسية ويقبلها ويستوعبها، ولقد انضوى تحت لوائه شعوب مختلفة، العربي والحبشي والفارسي والرومي وفيهم الأبيض والأسود فعاشوا إخوانا متحابين لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى، يسعى كل واحد منهم إلى الارتقاء في الكون وتحفيز الإنسان إلى تنمية ملكاته الإبداعية وقدراته الاجتهادية، والعمل الصالح في الدنيا والآخرة.
نعم أساء المتطرفون إلى الإسلام والمسلمين بمعاملتهم القاسية وأسلوبهم الفظ ومنهجهم المتشدد وأوهموا أعداء الإسلام أن الإسلام دين متطرف يحارب الرحمة واللين.
والأردن والحمد لله بدأ مبكراً في علاجه للتطرف والتكفير، فانطلقت رسالة عمان ووضعت النقاط على الحروف، ونبهت وحذرت من أضرارهم وآثارهم السيئة، وأوضحت أن من صفاتهم الغلظة والقسوة، وأن قلوبهم مرّة تمتلأ حقداً وغلاً، وقد خلت من الرحمة والحنان حيث أرهبوا الناس بالتعذيب والقتل والتحريق والتنكيل باسم الدين، والدين منهم براء، لأن الدين كله رحمة وسلام.
لذا أصبحنا بحاجة ماسة لطلاب العلم الشرعي المستنيرين المعتدلين، ذوي البصيرة في فقه النصوص وتلمس مقاصد ومرامي الشريعة، وتغليب الخطاب الديني السليم، وترك الخطاب الطائفي، والإحاطة بمنظومة العبادة والعادة وعدم قصرها على الأخروي فقط، وعلى العموم نحن بحاجة ماسة إلى إيجاد الشخصية الإنسانية المجتهدة الجادة والمخلصة للدين والوطن.
هذه الحقائق لا بد أن تصير محورا عند العلماء والأدباء والأئمة والوعاظ والمربين والمعلمين؛ لأن كلّ من خالف هدى الله عز وجل واتبع الآراء المنحرفة فقد سعى إلى الفتنة، قال تعالى: (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) النور/ 63.
إن دعوة جلالة الملك عبد الله الثاني يحفظه الله في اجتماعاته وتوجيهاته لم تقتصر على هؤلاء فحسب، وإنما خاطب كل مواطن في هذا الوطن المبارك وحضه على الشعور بأمانة المسؤولية وأنه على ثغرة من ثغر هذا الوطن فلا يؤتى الخلل من قبله.
نحن بحاجة إلى موظف قوي أمين، حفيظ عليم يقوم بواجبه من غير عجز ولا تقصير، ينظر بمنظار المساواة والعدل والإخلاص، يحب لأخيه ما يحب لنفسه.
ونحن بحاجة إلى إعلام صادق يحمل الكلمة الحق، ولا نسمع منه إلا خيراً ولا يقول إلا حقاً، شعاره (وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا) الإسراء/ 36.
نحن بحاجة إلى الكاتب المفكر الذي يحمل الكلمة الطيبة والمسؤولة، وذلك من خلال النقد البناء الهادف، والدعوة بالحسنى والحكمة والحوار العلمي، لبناء أمة قوية متماسكة، ومقابل ذلك فنحن لسنا بحاجة إلى كاتب يقذف بسهام مسمومة، يشكك في الكتاب والسنة، ويعيب على الله عز وجل في أحكامه.
ينتظرنا دور فعّال في مواجهة الأخطاء والفساد وغرس الأخلاق وحب الوطن والدعوة إلى التآلف والمحبة والوئام، ونبذ التطرف والإرهاب، وعلينا أن نشكر الله تعالى على نعمة حبانا الله تعالى إياها، وهي أننا نعيش في بلد آمن مطمئن، والناس من حولنا يتخطفون.
والحمد لله رب العالمين