(سلسلة مقالات منتقاة من التراث)
الإسلام كفيل بالسياسة العادلة
عبدالوهاب خلاف
من كتاب السياسة الشرعية في الشؤون الدستورية والخارجية والمالية
السياسة العادلة لأية أمة هي تدبير شئونها الداخلية والخارجية بالنظم والقوانين التي تكفل الأمن لأفرادها وجماعاتها والعدل بينهم، وتضمن تحقيق مصالحهم وتمهيد السبيل لرقيهم وتنظيم علاقتهم بغيرهم.
والإسلام كفيل بهذه السياسة، تصلح أصوله أن تكون أسسًا للنظم العادلة، وتتسع لتحقيق مصالح الناس في كل زمان وفي أي مكان.
وبرهان ذلك أمران:
أحدهما:
أن الأصل الأول والمصدر العام للإسلام - وهو كتاب الله تعالى - لم يتعرض فيه لتفصيل الجزئيات، بل نص فيه على الأسس الثابتة والقواعد الكلية التي يُبنى عليها تنظيم الشؤون العامة للدولة. وهذه الأسس والقواعد قلما تختلف فيها أمة من أمة، أو زمان من زمان.
أما التفصيلات التي تختلف فيها الأمم باختلاف أحوالها وأزمانها فقد سكت عنها لتكون كل أمة في سعة من أن تُراعى فيها مصالحها الخاصة وما تقتضيه حالها.
ففي نظام الحكم لم يفصل القرآن الكريم نظامًا لشكل الحكومة، ولا لتنظيم سلطانها ولا لاختيار أولي الحل والعقد فيها، وإنما اكتفى بالنص على الدعائم الثابتة التي ينبغي أن تعتمد عليها نُظم كل حكومة عادلة، ولا تختلف فيها أمة عن أمة، فقرر العدل في قوله سبحانه: (وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ) النساء/ 58، والشورى في قوله عز شأنه: (وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ) آل عمران/ 159، والمساواة في قوله سبحانه: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) الحجرات/ 10. أما ما عدا هذه الأسس من النظم التفصيلية فقد سكت عنها ليتسع لأولي الأمر أن يضعوا نظمهم ويشكلوا حكومتهم ويكونوا مجالسهم بما يلائم حالهم ويتفق ومصالحهم، غير متجاوزين حدود العدل والشورى.
وفي القانون الجنائي لم يحدد عقوبات مُقَدَّرة إلا لخمس فئات من المجرمين، الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادًا, والذين يقتلون النفس بغير حق، والذين يرمون المحصنات الغافلات، والزانية والزاني، والسارق والسارقة.
أما سائر الجرائم -من جنايات وجنح ومخالفات- فلم يحدد لها عقوبات، وإنما ترك لأولي الأمر أن يُقدِّروا عقوباتها بما يرونه كفيلًا بصيانة الأمن وردع المجرم واعتبار غيره؛ لأن هذه التقديرات مما تختلف باختلاف البيئات والأمم والأزمان، فمهد السبيل لولاة كل أمة أن يقرروا العقوبات بما يلائم حال الأمة ويوصل إلى الغرض من العقوبة، وأرشد الله سبحانه إلى أصل عام لا تختلف فيه الأمم وهو أن تكون العقوبة على قدر الجريمة، فقال عز من قائل: (وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ) النحل/ 126، وقال: (فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ) البقرة/ 194.
وفي قانون المعاملات اكتفى بالنص على إباحة ما يقتضيه تبادل الحاجات ودفع الضرورات، فأحل البيع والإجارة والرهن وغيرها من عقود المعاملات، وأشار إلى الأساس الذي ينبغي أن تُبنى عليه تلك المبادلات وهو التراضي فقال عز شأنه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ) النساء/ 29. أما الأحكام التفصيلية لجزئيات هذه المعاملات فلولاة الأمر في كل أمة أن يفصلوها حسب أحوالها على أساس التراضي.
وكذلك اكتفى بالنص على منع المعاملات التي تفضي إلى النزاع وتوقع في العداوة والبغضاء، فحرم الربا والميسر على أساس دفع الضرر وقطع أسباب الشحناء، وسكت عن تفصيل الأحكام الجزئية لهذه المعاملات؛ ليتسنى أن يكون تفصيلها في كل أمة على وفق حالها.
وفي النظام المالي فرض في أموال ذوي المال وعلى رءوس بعض الأنفس ضرائب، وجهها في مصارف ثمانية، مرجعها إلى سد نفقات المنافع العامة، ومعونة المعوزين، وترك تفصيل الترتيب لهذه الموارد وتصريفها في مصارفها لكل أمة تتبع فيه ما يلائمها.
وفي السياسة الخارجية أجمل علاقة المسلمين بغيرهم في قوله سبحانه: (لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ، إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) الممتحنة/ 8.
القرآن الكريم لم ينص في الشؤون العامة على تفصيل الجزئيات، وما كان هذا لنقص فيه أو قصور، وإنما هو لحكمة بالغة، حتى يتيسر لكل أمة أن تفصل نظمها على وفق حالها، وما تقتضيه مصالحها، على ألا تتجاوز في تفصيلها حدود الدعائم التي ثبتها، فهذا الذي يُظن أنه نقص هو غاية الكمال في نظام التقنين الذي يتقبل مصالح الناس كافة ولا يحول دون أي إصلاح.
والثاني:
أن الإسلام أبان - بكثير من أحكامه وحِكمه وآياته - أن غايته هي تحقيق مصالح الناس ورفع الضرر عنهم، ومقصوده إقامة العدل بينهم ومنع عدوان بعضهم على بعض.
يتبين هذا من حكم التشريع التي نص عليها مع الأحكام في مثل قوله تعالى: (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ) البقرة/ 179، وقوله سبحانه: (إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) المائدة/ 91، وقول الرسول صلى الله عليه وسلم في منع بيع الثمر قبل أن يبدو صلاحه: (أَرَأَيْتَ إِذَا مَنَعَ اللَّهُ الثَّمَرَةَ، بِمَ يَأْخُذُ أَحَدُكُمْ مَالَ أَخِيهِ).
بل إن العبادات نفسها قُرن التكليف بها بما يدل على أن المقصود منها إصلاح حال الناس، كما قال تعالى في حكمة الصلاة: (إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ) العنكبوت: 45، وفي الصيام: (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) البقرة/ 183، وفي الزكاة: (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا) التوبة/ 103، وفي الحج: (لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ) الحج/ 28، وينطق بهذا قوله تعالى: (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) البقرة/ 185، وقوله عز شأنه: (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) الحج/ 78، وقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (لاَ ضَرَرَ وَلاَ ضِرَارَ)، وقوله صلى الله عليه وسلم: (بُعِثْتُ بِالْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ).
وإذا كان الإسلام غايته ومقصده إصلاح حال الناس وإقامة العدل فيهم، وخطته وطريقته اليسر بهم ورفع الحرج عنهم، فهو بلا ريب كفيل بكل سياسة عادلة، ويجد كل مصلح في أصوله وكلياته لكل ما يريد من إصلاح، ولا يُقصِّر عن تدبير شأن من شؤون الدولة.