رسائل مقدّسة من أرض الإسراء والمعراج
عطوفة الأمين العام د. أحمد الحسنات
الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
إنْ كان للأرض شهادة، فهي شهادة أرض الإسراء والمعراج تشهد على عهد السماء إلى الأرض، عهد الإسلام والنبوات والمقدّسات، عهد ربّ العالمين لأمة هي خير الأمم، {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّه} [آل عمران: 110]، عهد التسبيح والتنزيه والتقديس لربنا جلّ جلاله، {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِير} [الإسراء: 1].
لقد شاءت حكمة الله تعالى أن يختار أرض بيت المقدس التي بارك حولها غاية الإسراء ومبتدأ المعراج، لتكون أرضا للإسلام والمسلمين على مرّ الأيام والدهور، ولتكون عهداً إلهياً سماوياً، بقداسة هذه الأرض وربطها ربطا مباشرا بالسماء فكان الإسراء ليلا إلى بيت المقدس والعروج منه إلى السماوات العلا إيذانا من الله بدمغ هذه الأرض بدمغة الإسلام، فهي من الأرض التي اختصتها السماء بالوحي الإلهي وصار الارتباط بها ارتباطا عقديا دينيا لا يمكن أن ينزع من قلوب المسلمين إلا بانتزاع قلوبهم من صدورهم، يقول أحمد شوقي:
إنما (القدس) منزل الوحي مغنى ... كل حَبْر من الأوائل عالم
كُنِّفت بالغيوب فالأرض أسرار ... مدى الدهر والسماء طلاسم
إنّ معجزة الإسراء والمعراج ليست معجزة يوم أو ليلة، بل هي معجزة الأيام والليالي كلّها، إنها معجزة الزمان كله، ومهما بلغ ظهور الباطل، فإنه كالزبد يذهب جفاءً، وأما الحق فهو باق مصداقا لقول الله تعالى، {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا} [الإسراء: 7].
إنّ دروس الإسراء والمعراج لا تنتهي، بل تتجدد عزماتها في أحلك الأوقات وأصعب الظروف، فعندما كان النبي صلى الله عليه وسلم يُكَذَّبُ بأشدّ أنواع التكذيب، ويُؤذَى بأشد أنواع الإيذاء، انفرجت تلك الظلمة برحلة النور، لتكون إسراءً ومعراجاً من خير بقاع الأرض "مكة" المكرمة إلى أرض "القدس" المقدسة ليعلم كل الخلق أن شأن القدس شأن إلهي محتوم حكم به رب العالمين، فأنى لشرذمة من شذاذ الآفاق أن يستولوا على هبة سماوية وعطية ربانية، إن الله تعالى بالمرصاد لكل مؤامرة تحيق ببيت المقدس وأكنافه، وسيجد الغاصبون والمعتدون الهوان في الدنيا والعذاب في الآخرة، فلا يملك أحد أن يتهاون في حقها أو أن يتنازل عنها، ولذلك أوجب الله سبحانه على كل صاحب مقدرة ومعرفة أن يدفع الظلم عن هذه الأرض بقدر ما يستطيع، وألَّا يقبل في سبيل ذلك مساومة أو مهادنة، فهذا كله أدعى للثبات على الحق الذي هو ديدن الصالحين من الأنبياء والمرسلين، فالقدس حق إسلامي عربي أصيل.
ففي ليلة الإسراء اجتمع سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأنبياء كلهم من عهد آدم إلى عيسى عليهم الصلاة والسلام، فتشرف الأنبياء بلقاء الابن والأخ والحبيب الذي طال انتظاره وبشر كل نبي قومه به، وكان كل واحد منهم يتمنى في قرارة نفسه أن يلقاه وأن يحوز شرف الانتماء لأمته واتباع هديه، فكل رسالاتهم إنما جاءت ممهدة لرسالته ولمبعثه صلوات ربي وسلامه عليه وعليهم أجمعين، فكان صلى الله عليه وسلم إمامهم بالمسجد الأقصى بعد أن أمهم بالروح، فكان هو الإمام وهم المأمومين فكأنهم سلموا أمانة المسجد الأقصى لسيد البشرية كلها ولأمته صلى الله عليه وسلم، فهم عهدوا إليه أمانتها وعهد هو لأمته صيانة هذه الأمانة.
وحتى لا يغيب المسجد الأقصى عن عقول المسلمين وأفئدتهم جاء فرض الصلاة التي هي أوثق شرائع الإسلام وآكد فروضه من فوق المسجد الأقصى ففي كل صلاة يصليها المسلمون تبقى نفوسهم معلقة بهذا المسجد المبارك وكأن هذه رسالة ربانية كبرى لتقديس المسجد الأقصى وتوثيق حقوقه وتوكيد هويته العربية والإسلامية.
فانظر إلى هذا الشرف العظيم الذي وهبه الله للمسجد وأهله وأصحابه، وانظر إلى الحكمة البالغة في أن تجعل قلوب المسلمين المخلصين مرتبطة بالمسجد متوجهة إليه في كل حين.
ثم انظر كيف أن الله تعالى أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يستقبل القدس والمسجد الأقصى في صلاته، ليكون أول القبلتين، وليظل مهوى الأفئدة وموطن المشاعر ومنبع الإخلاص في هذه الأمة، بل لتكون القدس القبلة الروحية التي لا تنام عنها الأعين ولا تغفل عنها القلوب، فتحوّل الوجوه نحو المسجد الحرام لا يعني تحول القلوب عن المسجد الأقصى المبارك.
ومن رسائل ذكرى الإسراء والمعراج، أن نلتفّ حول كلّ من يدافع عن الأرض المقدّسة ويثبت الحقوق لأهلها، فإنّ ذلك من تعظيم هذه الذكرى العطرة وإجلال صاحبها عليه الصلاة والسلام، ونذكر هنا الجهود المباركة لجلالة الملك عبد الله الثاني المعظم، الذي مثل في هذه الفترة العصيبة بإجماع العالم جانب الحقّ والعدل في نصرة قضية فلسطين، مستنداً إلى الحقّ الديني والتاريخي في رعاية الأقصى والمقدسات بما حباه الله تعالى من حقّ الوصاية الهاشمية المستمدّة من ظلال جدّه، وهو يسير على خطى صاحب هذه الذّكرى سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم حاملا أمانة المسجد الأقصى من جده النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم، وهو في دفاعه هذا مستوجب لكل ثناء ودعم وتأييد، فإنّ جهوده في ذلك إنما هي على خطى سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وهدي خلفائه الراشدين المهديين الفاتحين، مصداقا لقول سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم الذي أخرجه الإمام أحمد في مسنده: "لا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي عَلَى الْحَقِّ ظَاهِرِينَ لَعَدُوِّهِمْ قَاهِرِينَ لا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَالَفَهُمْ إِلَّا مَا أَصَابَهُمْ مِنْ لأْوَاءَ حَتَّى يَأْتِيَهُمْ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَذَلِكَ". قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَأَيْنَ هُم؟ قَالَ: "بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ وَأَكْنَافِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ"،
وما أخرجه الطبراني: "لا تَزَالُ طائِفةٌ مِن أُمَّتي عَلَى الحَقِّ ظاهِرِين على مَن نَاوَأَهُمْ، وَهُمْ كالإِنَاءِ بينَ الأَكَلَةِ حتَّى يَأْتِي أَمْرُ اللهِ وهُمْ كَذَلِكَ". قلنا: يا رسول الله، وأين هم؟ قال: "بأَكْنَافِ بيتِ المَقْدِسِ".
والرسالة الأعظم التي نتمسّك بها جميعاً ويجب علينا أنْ لا ننساها لحظة هي وعد الله تعالى لأهل الحقّ أنّ حقهم محفوظ بحفظ الله تعالى، وأنّ صاحب الأرض هو الأولى بأرضه وأنه عائد إليها لا محالة، والأوطان لا تتبدّل ولا تتغير، وأنه مهما حصل من فتور أو انتكاس في أبناء الأمة، فإنه مؤقّت لا محالةَ، ويزول بجهود الصادقين المخلصين لأماناتهم الموفين بعهدهم، وسيأتي اليوم الموعود الذي يذوق فيه الظالمون جزاءَ ظلمهم، ويكون لهم من بعد ذلك عذاب عظيم؛ فالقدس تخلد أبطالها وتلفظ خبثها والتاريخ خير شاهد، فإنهم يرونه بعيدا ونراه قريبا.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.