صمت ليوم هو أحرُّ منه
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبيَّ بعده، عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
فالصيام ركن من أركان الدين العظيم، ودعامة من دعائمه الأساسية، وهو دأب المتقين، وشعار الصالحين، يطهّر النفس، ويهذّب الخلق، وقد عرف ذلك الصالحون من قبل فكان شعاراً لهم.
روي عن الأصمعي أنه قال: "خَرج الَحَجّاج ذات يوم فأصحر، وحَضَر غَداؤه، فقال: اطلُبوا من يَتَغدَّى مَعَنا، فَطلبوا، فلم يَجدُوا إلا أعرابياً في شَمْلة فأتَوْه به؛ فقال له: هَلُمّ؛ قال له: قد دعاني من هو أكرمُ مَنك فأجَبتُه؛ قال: ومَن هو؟ قال: اللّه تبارك وتعالى، دعاني إلى الصَّيام فأنا صائم؛ قال: صَوْم في مثل هذا اليوم على حَرّ؛ قال: صُمْت ليوم هو أحرُّ منه؛ قال: فأفطر اليوم وصُم غداً؛ قال: ويَضْمن لي الأميرُ أن أعيشَ إلى غد؛ قال: ليس ذلك إليّ؛ قال: فكيف تَسألني عاجلًا بآجل ليس إليه سَبيل؛ قال: طَعام طَيّب، قال: والله ما طَيَّبَه خَبَّازك ولا طَبَّاخك، ولكن طَيِّبَته العافية؛ قال الحجاج: تاللّه ما رأيت كاليوم، أخرجوه عنِّي". انتهى من "العقد الفريد" لابن عبد ربه (1/ 435).
سبحان الله، إذا كان هذا حالهم مع صوم التطوع، فكيف حالهم مع رمضان؟ ترى ما هو الدافع لدى هذا الأعرابي ليقف هذا الموقف أمام أشد الولاة قوة وبطشاً؟ لا بد أنَّ هذا الأعرابي قد عرف فضل الصيام ومكانته لتنبعث فيه هذه العزيمة، ويقوى فيه الإصرار على رفض طلب هذا الوالي، نعم لا بدَّ أن هذا الأعرابي قد عرف أنَّ في الصيام عامة، وفي رمضان خاصة الفضائل الآتية:
أولاً: أن الصيام جُنَّة -أي وقاية وستر- فهو حاجز وواق للعبد من نار جهنم، لما رواه مطرف، قال: دخلت على عثمان بن أبي العاص رضي الله عنه، فأمر لي بلبن لقحة، فقلت: إني صائم، فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (الصوم جُنَّة من عذاب الله كجُنَّة أحدكم من القتال) رواه الإمام أحمد في مسنده (4/ 217)، وصححه السيوطي في الجامع الصحيح.
جاء في "فتح الباري" لابن حجر رحمه الله (4/ 104): "إنما كان الصوم جُنَّة من النار؛ لأنه إمساك عن الشهوات، والنار محفوفة بالشهوات، فالحاصل أنه إذا كفّ نفسه عن الشهوات في الدنيا، كان ذلك ساتراً له من النار في الآخرة" انتهى.
ثانياً: إكرام الصائمين وتميزهم يوم القيامة بتخصيص أحد أبواب الجنة الثمانية لهم خاصة، وهو باب يسمى (الرّيان)؛ لا يدخل منه غيرهم؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ في الجَنَّةِ بَاباً يُقَالُ لَهُ الرَّيَّانُ، يَدْخُلُ مِنْهُ الصَّائِمُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، لاَ يَدْخُلُ مَعَهُمْ أحَدٌ غَيْرُهُمْ، يُقَالُ: أَيْنَ الصَّائِمُونَ؟ فَيَدْخُلُونَ مِنْهُ، فَإِذَا دَخَلَ آخِرُهُمْ أُغْلِقَ فَلَمْ يَدْخُلْ مِنْهُ أَحَدٌ) متفق عليه.
ثالثاً: الصيام من أعظم أسباب مغفرة الذنوب وتكفير السيئات، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: (مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ) رواه مسلم. ومعنى الحديث: إيماناً بأن الله فرض الصوم عليه، واحتساباً للأجر والمثوبة منه سبحانه.
ومن الأسباب المعينة على الطاعة في رمضان أن الشياطين فيه تصفد عن الوسوسة للعبد، وبالتالي تفتح فيه أبواب الجنة، وتُغلق فيه أبواب النار، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إِذَا جَاءَ رَمَضَانُ فُتِّحَتْ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ، وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ النَّارِ، وَصُفِّدَتِ الشَّيَاطِينُ) متفق عليه.
ففي ذلك بشارة للمؤمنين بكَثرَةِ الأعمال الصالحة المُوصِلة إلى الجنَّة، وما يَتيسَّر لهم من أسباب الإعانة عليها والمضاعفة لها، وما جعَلَه الله في رَمضان من دَواعِي الزهد في المَعاصِي والإعراض عنها، وضعف كَيْدِ الشياطين، وعدم تمكُّنهم ممَّا يُرِيدون.
يقول المناوي رحمه الله في "فيض القدير (1/ 437): "صفدت الشياطين شدت بالأغلال لئلا يوسوسوا للصائم، وآية ذلك تنزه أكثر المنهمكين في الطغيان عن الذنوب فيه، وإنابتهم إليه تعالى" انتهى.
رابعاً: أن الإثابة على الصيام مما أضافه الله تعالى إليه، لما رواه أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قَالَ الله عَزَّ وَجَلَّ: كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إِلاَّ الصِّيَامَ فَإِنَّهُ لِي، وَأَنَا أَجْزِي بِهِ) متفق عليه.
قال النووي رحمه الله: "اختلف العلماء في معناه مع كون جميع الطاعات لله تعالى، فقيل: سبب إضافته إلى الله تعالى أنه لم يعبد أحد غير الله تعالى به؛ فلم يعظم الكفار في عصر من الأعصار معبوداً لهم بالصيام، وإن كانوا يعظمونه بصورة الصلاة والسجود والصدقة والذكر وغير ذلك. وقيل: لأن الصوم بعيد عن الرياء لخفائه، بخلاف الصلاة والحج والغزو والصدقة وغيرها من العبادات الظاهرة". انتهى من" شرح النووي على مسلم" (4/ 152).
خامساً: شفاعة الصيام لصاحبه يوم القيامة، فعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الصِّيَامُ وَالْقُرْآنُ يَشْفَعَانِ لِلْعَبْدِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، يَقُولُ الصِّيَامُ: أَيْ رَبِّ، مَنَعْتُهُ الطَّعَامَ وَالشَّهَوَاتِ بِالنَّهَارِ، فَشَفِّعْنِي فِيهِ، وَيَقُولُ الْقُرْآنُ: مَنَعْتُهُ النَّوْمَ بِاللَّيْلِ، فَشَفِّعْنِي فِيهِ، قَالَ: فَيُشَفَّعَانِ) رواه الإمام أحمد في مسند، (2/ 174)، وقال عنه العلماء كالمنذري والسيوطي: "حديث صحيح".
سادساً: أن خلوف فم الصائم -وهو الرائحة الكريهة المنبعثة من فمه نتيجة خلو المعدة من الطعام- أطيب عند الله تعالى من ريح المسك، فرائحة الخلوف طيِّبة عند الله تعالى، مع أنها مكروهة عند البشر، لأنّ سببها طاعة العبد لربه، وبذلك يتشابه الصائم والشهيد يوم القيامة، فرائحة الدم والخلوف متشابهة، فهما كرائحة المسك، فعن أبي هريرة رضِي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من مَكلُومٍ يُكلَم في سبيل الله إلا جاء يومَ القيامة وكَلْمُه يَدْمَى، اللونُ لونُ دمٍ والرِّيحُ رِيحُ مسكٍ) متفق عليه.
نعم فضائل الصيام كثيرة لا يسع المجال لذكرها، وإنما هو تذكرة لمن يتثاقل من الصيام، وقد يصل به الأمر لدرجه كُره العبادة، وهو أمر خطير يجب الحذر منه، فَحَرِيٌّ بمن كان هذا حاله أن ينظر في حال هذا الأعرابي، في صحراء قاحلة ملتهبة، يتلقى دعوة من والي البلاد، لتناول ألذ وأشهى الطعام والشراب، فيعرض عن ذلك كله، يعرض عن شهوات نفسه، وعن حبّ التقرب لأصحاب الجاه والسلطان؛ لأنه قارن بين ملذّات الدنيا الفانية، وبين ما أعدّ الله تعالى لعباده الصائمين من نعيم مقيم، فكان هذا الموقف الذي سطرته كتب التاريخ على مرّ السنين.
نعم؛ لقد أكرمنا الله تعالى، إذ مدَّ في أعمارنا، حتى بلغنا شهر رمضان، وندعو الله عز وجل أن يعيننا على صيامه وقيامه، وأن يجعلنا من عباده الصالحين، الذين يتقبل صيامهم وقيامهم، ويغفر ذنوبهم، ويعتقهم من النار، وعلينا أن نغتنم هذه الأيام المباركة وما فيها من نفحات وبركات لنكون من الفائزين، والحمد لله رب العالمين.