سماحة المفتي العام الشيخ عبد الكريم الخصاونة
الحمد لله الذي جعل بعد كل ضيق فرجاً، وبعد عسر يسراً، وبعد كل ظلمة فجراً، والصلاة والسلام على نور الهدى خير معلم للصبر عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وبعد:
فلقد عاش المسلمون وبين ظهرانيهم النبي صلى الله عليه وسلم في بداية الدعوة شدة وتعباً ومعاناةً، فالأذى كان يصب عليهم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يُصبِّرهم ويحثهم على التمسك بهذا الدين وأن بشائر النصر والفرج قريبة.
والذي يطالع حادثة الإسراء والمعراج يدرك قدرة الله تعالى وعظمته، وعنايته بهذه الأمة، وإعداده لها، لمواجهة الأحداث والشدائد. والإعداد يحتاج إلى صبر وتحمل، ولطف ولين، قال الله تعالى:(وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ) آل عمران/159.
قبل رحلة الإسراء وصلت الشدائد على المسلمين قمتها، فازدادت الشدة والمتاعب على المسلمين وعلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما توفي عمه أبو طالب، ثم زوجته خديجة رضي الله عنها في نفس العام، فكان عام الحزن عندما فُقد أقوى نصيرين كانا يدافعان ويصدان الأذى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فبموت أبي طالب أخذت قريش تنال من الرسول صلى الله عليه وسلم ما لم تكن تناله من قبل:أخذ يتصدى له الأعداء فآذوه وسخروا منه، حتى إن سفيهاً حثا التراب على رأسه الشريف، ودخل بيته والتراب يتطاير على وجهه الكريم، فقامت ابنته تمسح التراب وهي تبكي، فقال صلى الله عليه وسلم بثقة واطمئنان:(يا بنية لا تبكي؛ فإن الله مانع أباك) رواه البيهقي في "دلائل النبوة". فكف التراب لا يُحزن النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما الذي يحزنه ويتأسف عليه عدم استجابة قومه للإسلام.
ونزل عليه القرآن الكريم:(قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ) الأنعام/33. في هذه الآية الكريمة يخبر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أنه يعلم تكذيبهم له، وحزنه وتأسفه عليهم، ويأمره ألا يحزن لتكذيبهم.
وبموت خديجة رضي الله عنها فَقَدَ صلى الله عليه وسلم نصيره الداخلي الذي يواسيه في بيته، ويمسح عنه الحزن، ويزيل عنه الأسى، ويشجعه على المضي بالدعوة، ليقينها أنه على الحق... هيهات هيهات أن تلد النساء مثلك يا خديجة.
نعم، إن المصائب لا تثني مِن عَزْمِ رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام، بل كانت تزيدهم ثقة بالله، واطمئناناً بوعده، لذا فقد اتجه إلى الطائف للقيام بمهمته الكبيرة، والاستمرار في الدعوة إلى الله.
وقابل زعماءها وسادتها وطرح عليهم دينه وعقيدته، لكنه رُفض رفضاً قاطعاً، وقُوبل برد قبيح، وأغروا به السفهاء والصبيان وضربوه حتى أدموا قدميه الشريفين فعمد إلى حائطٍ من حوائطهم، واستظل في ظل شجرة منه، وهو مكروب موجع تسيل رجلاه دماً.
هذا ما لاقاه النبي صلى الله عليه وسلم من قومه: فقد القريب والحبيب وهو في وقت عز فيه النصير، فإلى من يتجه حبيب الله عليه الصلاة والسلام؟!
تضرع إلى الله تعالى وناجاه قائلاً:(اللَّهُمَّ إلَيْكَ أَشْكُو ضَعْفَ قُوَّتِي، وَقِلَّةَ حِيلَتِي، وَهَوَانِي عَلَى النَّاسِ، يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، أَنْتَ رَبُّ الْمُسْتَضْعَفِينَ، وَأَنْتَ رَبِّي، إلَى مَنْ تَكِلُني؟ إلَى بَعِيدٍ يتجَهَّمني؟ أَمْ إلَى عَدُوٍّ مَلَّكْتَهُ أَمْرِي؟ إنْ لَمْ يَكُنْ بِكَ عليَّ غَضَبٌ فَلَا أُبَالِي، وَلَكِنَّ عَافِيَتَكَ هِيَ أَوْسَعُ لِي، أَعُوذُ بِنُورِ وَجْهِكَ الَّذِي أَشْرَقَتْ لَهُ الظلماتُ، وَصَلُحَ عَلَيْهِ أمرُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ مِنْ أَنْ تُنزل بِي غَضَبَكَ، أَوْ يَحِلَّ عليَّ سُخْطُك، لَكَ العُتْبَى حَتَّى ترضَى، وَلَا حولَ وَلَا قوةَ إلَّا بك) "سيرة ابن هشام" (2/ 48). هذا التوجه من خاتم الأنبياء تستشعر فيه الحزن والألم لعدم استجابة قومه لله عز وجل.
والآن، لا بد من العودة إلى مكة، ولكن كيف ستكون العودة وقد خرج لاجئاً إلى الطائف ليجد فيها النصير والمعين فكان كالذي استجار بالرمضاء من النار؟!
ومن قسوة الرد وشدة الموقف وسوء الظروف عاد صلى الله عليه وسلم مهموماً على وجهه ولم يستفق إلا بقرن الثعالب (مكان قرب مسجد الخيف الآن)، فرفع صلى الله عليه وسلم رأسه وإذا بسحابة قد أظلته، فنظر فإذا فيها جبريل عليه السلام، فناداه وقال: إن الله قد سمع قول قومك لك، وما ردّوا عليك، وقد بعث إليك مَلَك الجبال لنأمره بما شئت فيهم. فناداه ملك الجبال فسلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: يا محمد مرني بما شئت، إن شئت أن أُطبق عليهم الأخشبين (جبلان حول مكة)، فبادر صلى الله عليه وسلم بالجواب: لا يا جبريل، ودعا لهم فقال: اللهم اهدِ قومي فإنهم لا يعلمون [رواه مسلم]. ودخل مكة في جوار أحد المشركين.
روى البخاري أن عائشة رضي الله عنها قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: هل أتى عليك يوم أشدّ من يوم أحد، قال: (لقد لقيت من قومك ما لقيت، وكان أشدّ ما لقيت منهم يوم العقبة؛ إذ عرضت نفسي على ابن عبد يا ليل بن كلال فلم يجبني إلى ما أردت...).
بعد هذه السلسلة من المتاعب والشدائد، كانت رحلة الإسراء والمعراج الشريفين تكريماً وتثبيتاً وتسرية لفؤاده صلى الله عليه وسلم النقي، وتأييداً لدعوته المباركة واستجابة لتضرعه ومسحاً لآلامه، وشفاء لنفسه الحزينة وقلبه المجروح على أمته (لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) الشعراء/3.
رحلة من مكة المكرمة إلى بيت المقدس تحفها الملائكة ويشهدها الأنبياء:(سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) الإسراء/1.
هكذا الحياة تشتد ساعة وتنفرج أخرى، وما بعد الشدة إلا الفرج، وما بعد العسر إلا اليسر، قال الله تعالى:(فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ) الشرح/ 5-8.
فطريق الفرج والنجاح واضح، فاجعل همّك أيها المسلم ورغبتك فيما عند الله تعالى، لا في هذه الدنيا الفانية. قال ابن كثير: "إذا فرغت من أمور الدنيا وأشغالها، وقطعت علائقها فانصب إلى العبادة، وقم إليها نشيطاً فارغ البال، وأخلص لربك النية والرغبة فلا تضجر ولا تحزن، لن يغلب عسر يسرين، فأكثرْ من تلاوة القرآن الكريم آناء الليل وأطراف النهار، واعرج بروحك إلى السماوات العلى في الأوقات الخمس:(وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) الحج/40.
تحية طيبة للمرابطين نشامى الجيش العربي المصطفوي، طوبى لهم وحسن مآب، وألف تحية لقيادتنا الهاشمية المباركة، وللشعب الأردني كافة.