سماحة المفتي العام: الشيخ عبد الكريم الخصاونة
عاد شهر رمضان واستدار الزمان دورته الفلكية المعتادة، واستبشرت قلوب المسلمين بعودته مرة أخرى بمصابيح القربات والطاعات، مستذكرين فرحة النبي صلى الله عليه وسلم باستقبال الضيف الكريم وهو يقول:(اللهم أهله علينا بالأمن والإيمان والسلامة والإسلام، ربنا وربك الله) رواه الطبراني.
أقبل الضيف الكريم بأنواره وبركاته، والواجب على المسلمين أن يعرفوا قدره، وأن يكرموا وفادته، وقد وكّل الله تعالى منادياً ينادي عند حلول أول ليلة منه: "يا باغي الخير أقبل، ويا باغي الشر أدبر". فيكون اللقاء الطيب بين المسلم ورمضان موعداً للتوبة من الحوبة، والعودة إلى الصراط المستقيم، والعزم على استئناف الأعمال الصالحة، والتخلص من الآثام الماضية ونزغات الشياطين، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم:(لَلَّهُ أَفْرَحُ بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ مِنْ رَجُلٍ نَزَلَ مَنْزِلاً، وَبِهِ مَهْلَكَةٌ، وَمَعَهُ رَاحِلَتُهُ عَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ، فَوَضَعَ رَأْسَهُ فَنَامَ نَوْمَةً، فَاسْتَيْقَظَ وَقَدْ ذَهَبَتْ رَاحِلَتُهُ، حَتَّى اشْتَدَّ عَلَيْهِ الْحَرُّ وَالْعَطَشُ أَوْ مَا شَاءَ اللَّهُ، قَالَ: أَرْجِعُ إِلَى مَكَانِي. فَرَجَعَ فَنَامَ نَوْمَةً، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ، فَإِذَا رَاحِلَتُهُ عِنْدَهُ) متفق عليه.
إن شهر رمضان فرصة نادرة يمنحها الله تعالى للإنسان؛ لأنها نفحة من نفحات الرحمة الإلهية التي تستوجب منا التعرض لها من أجل استئناف حياة إيمانية جديدة، قال الرسول صلى الله عليه وسلم:(تَعَرَّضُوا لِنَفَحَاتِ رَحْمَةِ الله، فَإِنَّ لله نَفَحَاتٍ مِنْ رَحْمَتِهِ يُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ)رواه الطبراني.
فباستثمار الوقت واغتنام فرصة الشهر الكريم، يستطيع الإنسان أن يعدّل وضعه، ويعوض خسارته وينتشل نفسه من آثام الخطايا والذنوب التي لحقته طوال عامه، قال الرسول صلى الله عليه وسلم:(إن الله عز وجل يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، حتى تطلع الشمس من مغربها) رواه مسلم. والسالك يستطيع أن يرفع درجته، ويعتق رقبته ويصبح من الفائزين.
وهذه الفرصة المباركة لا تتكرر في العام سوى مرة واحدة وفي شهر واحد، شهر فيه تفتح أبواب الجنة، وتغلق أبواب النيران، وتصفد الشياطين، فيه ليلة القدر، هي خير من ألف شهر، تنزل الملائكة وجبريل إلى الأرض بأمر ربهم...
فأنعم به من شهر، وأكرم بمن أدى فيه حق ربه، واطمأنت فيه نفسه، وقرت فيه عينه، وفرح بصومه، وستكون فرحته بلقاء ربه أشد، قال النبي صلى الله عليه وسلم:(للصَّائِمِ فَرْحَتَانِ يَفْرَحُهُمَا:إِذَا أَفْطَرَ فَرِحَ، وَإِذَا لَقِىَ رَبَّهُ فَرِحَ بِصَوْمِهِ) متفق عليه.
فمن فاته الخير في هذا الشهر فقد فاته خير عظيم، ونفع عميم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(قال لي جبرائيل عليه السلام:رغم أنف عبد دخل عليه رمضان فلم يغفر له، فقلت:آمين) رواه الترمذي.
فعلى المسلم الحريص على استثمار هذا الشهر أن يملأ قلبه بالحب والرحمة والإيمان والتقرب إلى الله تعالى بالتوبة والمغفرة والإحسان، قال الله تعالى:(فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) الزمر/22.
والحمد لله فإن الخير في مجتمعنا كبير، وكثير من الناس يستأنفون حياتهم الطيبة في رمضان، ويجددون التوبة مع الله عز وجل ويقلعون عن المعاصي والآثام، ويعزمون على عدم العودة إليها، ويتدربون في هذا الشهر الكريم على الخير وممارسة الطاعات، فيكون لهم فرصة للتصحيح، والمراجعة والأمل بالحصول على الجائزة العظمى ألا وهي الجنة، قال الله تعالى:(ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) التوبة/72. الفوز الذي لا فوز بعده؛ لأنه سبب السعادة الأخروية، قال الله تعالى:(خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ) المطففين/26.
قال الطبري:التنافس مأخوذ من الشيء النفيس الذي يحرص عليه الناس وتشتهيه وتطلبه نفوسهم، والمعنى:فليستبقوا في طلب هذا النعيم، ولتحرص عليه نفوسهم.
ومما لا شك فيه أن من يصوم رمضان إيماناً واحتساباً، ويتدرب فيه على عمل الطاعات وتقديم المساعدات ويقرأ القرآن ويحفظ اللسان، فهو قادر على العمل المنتج، وقادر أيضاً على كبح جماح شهواته وملذاته، وينطلق الصائم نحو الخير والفضيلة، وهذا هو التحدي الذي تواجهه الأمة الإسلامية في كل زمان ومكان، قال الله تعالى:(وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا . فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا) الشمس: 7-8، أي: زكى نفسه بطاعة الله. لذلك رتّب الله تعالى على الإخلاص في الصيام الأجر الكبير، قال صلى الله عليه وسلم:(مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِه) رواه البخاري.
والصائم الطائع لله تعالى، يستشعر مراقبة الله تعالى له في كل مجالات حياته ويحاسب نفسه على ما تقدم من فعلها، وهو بذلك يكون قد بدأ في أول مراتب الإصلاح وعلاج النفس وشهواتها.
فللصوم مهمة تربوية أخلاقية تغير السلوك في الإنسان، تغييراً حقيقياً صحيحاً؛ لأن التغيرات المادية المرتبطة بمواقيت الطعام والشراب تستوجب منا النظر إلى دلالاتها ومعرفة الغاية والمقصد من ورائها، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:(مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ فَلَيْسَ لله حَاجَةٌ فِى أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ) رواه البخاري.
كما يجب أن يشعر الصائم بهذا التغيير ويُشعر الآخرين به، لقول النبي صلى الله عليه وسلم:(إذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث حينئذ ولا يصخب، فإن شاتمه أحد أو قاتله فليقل: إني امرؤ صائم، إني امرؤ صائم) رواه النسائي.