سماحة المفتي العام:الشيخ عبد الكريم الخصاونة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
فقد جعل الله تعالى للمسجد الأقصى مكانة مميزة في قلوب المسلمين، وهي مكانة دينية تنبع من صميم عقيدتهم، وكفى بمعجزة الإسراء والمعراج تشريفاً وتعظيماً. قال الله تعالى:(سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) الإسراء/1.
فالإسراء:هو الانتقال بالرسول صلى الله عليه وسلم من المسجد الحرام بمكة المكرمة إلى المسجد الأقصى في بيت المقدس.
والمعراج:هو الصعود إلى السماوات العلا من المسجد الأقصى إلى باب السماء المسامت لبيت المقدس؛ لأن السماء لها أبواب كثيرة، وتكريماً للمسجد الأقصى عُرج بالرسول صلى الله عليه وسلم منه إلى السماء.
فمكانة المسجد الأقصى الدينية تبعث في نفوس المسلمين الاعتزاز بدينهم، والتمسّك بحقوقهم، والثقة بربهم عز وجل الذي يطلق أرواحهم إلى عوالم الكون الواسع فترتاد منها ما يبعث الشوق إلى الملأ الأعلا.
فمنه عُرج بالرسول صلى الله عليه وسلم إلى السماوات العلا، ثم إلى سدرة المنتهى، التي ينتهي عندها علم الخلائق، ولا يتجاوزها أحد من الملائكة فضلاً عن البشر، وفي المعراج رأى الرسول الكريم عجائب وغرائب في ملكوت الله الواسع؛ مما يدهش العقول ويحيّر الألباب، وبيّن للناس ما يجب عليهم من الإيمان والتصديق وعدم المجادلة والمماراة في مواضع الغيب والوحي:(مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى، أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى، وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى، عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى، عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى، إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى، مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى) النجم/11-17.
ففي ليلة المعراج رأى محمد صلى الله عليه وسلم عجائب ملكوت الله... رأى البيت المعمور، وسدرة المنتهى، وعندها جنة المأوى التي تأوي إليها الملائكة وأرواح الشهداء والصالحين، ورأى جبريل في صورته التي يكون عليها في السماوات.
وللمسجد الأقصى ميزات كثيرة منها:
الأولى:تمت فيه البيعة، فقد اجتمع الأنبياء في بيت المقدس، ولم يجتمعوا في مكان آخر سواه، وأمَّهم النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة، ورحب كل نبي بمحمد صلى الله عليه وسلم وأثنى على رسالته، وتمت له البيعة، وتسلم القيادة، فكان لقاءً ربانياً تتعانق فيه قيم الأنبياء جميعاً، كما ورد في الحديث الشريف: (مَثَلِي وَمَثَلُ الأَنْبِيَاءِ كَرَجُلٍ بَنَى دَارًا فَأَكْمَلَهَا وَأَحْسَنَهَا، إِلاَّ مَوْضِعَ لَبِنَةٍ، فَجَعَلَ النَّاسُ يَدْخُلُونَهَا وَيَتَعَجَّبُونَ، وَيَقُولُونَ: لَوْلاَ مَوْضِعُ اللَّبِنَةِ) متفق عليه.
ولقد ذكر الله تعالى هذه البيعة في كتابه العزيز فقال جل وعلا:(وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ) آل عمران/81.
الثانية: أنه قبلة المسلمين الأولى: القبلة هي الجهة التي يولي المسلم وجهه شطرها عند الصلاة وعبادة ربّه ويدعوه رغباً ورهباً مستمداً منه العزيمة والقوة والمنعة، وهل يوجد عند المسلم أعزّ وأقدس وأفضل من القبلة التي يتجه إليها في صلاته وفي طاعته لربه؟
قال الله تعالى:(قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ) [البقرة: 144]. فالمسجد الأقصى قبلة المسلمين الأولى وصلى إليه النبي صلى الله عليه وسلم ستة عشر شهراً أو سبعة عشر شهراً حتى نزل الأمر من الله تعالى بالتوجه إلى الكعبة المشرفة.
الثالثة: أنه ثاني مسجد بني في الأرض بعد المسجد الحرام، وثالث الحرمين الشريفين في القدسية بعد المسجد الحرام والمسجد النبوي الشريف، قال صلى الله عليه وسلم:(لاَ تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلاَّ إِلَى ثَلاَثَةِ مَسَاجِدَ: الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَمَسْجِدِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم، وَمَسْجِدِ الأَقْصَى) متفق عليه.
وقد قرنه النبي صلى الله عليه وسلم بالحرم المكي والحرم المدني، وجعل الثلاثة أقدس مساجد المسلمين، أما بقية المساجد فهي مقدسة ومعظمة لأنها بيوت الله:(وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا) الجن/18، لكنها لا تصل إلى مرتبة المساجد الثلاثة، ولما كانت هذه المساجد الثلاثة بهذه المرتبة العظيمة، فإن المؤمن يشتاق إليها ويحب أن يكثر من التردد عليها، والترحال إليها، والمحافظة على صلاة الجماعة فيها، وقد بيّن صلى الله عليه وسلم أن من يكثر التردد على المساجد والترحال إليها فإن قلبه يتعلق بها، ففي الحديث: (سبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ فِى ظِلِّهِ يَوْمَ لاَ ظِلَّ إِلاَّ ظِلُّهُ... وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ فِي الْمَسَاجِدِ) متفق عليه.
الرابعة: أرضه وما حولها مباركة: قال تعالى:(الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ) الإسراء/1. وبلاد الشام -وهي الأردن وسوريا ولبنان وفلسطين-أرض مباركة، وبركتها من بركة المسجد الأقصى.
قال صلى الله عليه وسلم:(سيصير الأمر إلى أن تكونوا جنوداً مجندة: جند بالشام وجند باليمن وجند بالعراق، قال ابن حوالة: خِرْ لي يا رسول الله إن أدركت ذلك. فقال صلى الله عليه وسلم: عليك بالشام؛ فإنها خيرة الله من أرضه، يجتبي إليها خيرته من عباده، فأما إن أبيتم فعليكم بيمنكم، واسقوا من غُدُركم [جمع غدير] فإن الله توكل لي بالشام وأهله) رواه أبو داود.
ومن بركة المسجد الأقصى وعظم شأنه عند الله تعالى، أنه تتضاعف به الحسنات أضعافاً كثيرة، روى الطبراني والبزار، قال صلى الله عليه وسلم: (فضل الصلاة في المسجد الحرام على غيره: مئة ألف صلاة، وفي مسجدي ألف صلاة، وفي مسجد بيت المقدس خمسمئة صلاة) رواه البيهقي في "شعب الإيمان".
والمؤمن همّه في الدنيا أن يزداد من الحسنات؛ لأنها زاده في آخرته يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم، فالقلوب المؤمنة الموقنة بلقاء الله تعالى تتعلق بما ينفعها في آخرتها، لتتحقق لها السعادة الأخروية.
الخامسة: بيت المقدس مقام الطائفة المؤمنة المنصورة إلى قيام الساعة، حتى يقاتل آخرهم الدجال. عن ثوبان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ، لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ، حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَذَلِكَ) رواه مسلم.
وفي حديث معاوية وهو يخطب قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:(لاَ يَزَالُ مِنْ أُمَّتِي أُمَّةٌ قَائِمَةٌ بِأَمْرِ اللَّهِ، مَا يَضُرُّهُمْ مَنْ كَذَّبَهُمْ، وَلاَ مَنْ خَالَفَهُمْ، حَتَّى يَأْتِي أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ عَلَى ذَلِكَ). فَقَالَ مَالِكُ بْنُ يُخَامِرَ: سَمِعْتُ مُعَاذًا يَقُولُ: وَهُمْ بالشَّأْمِ. فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: هَذَا مَالِكٌ يَزْعُمُ أَنَّهُ سَمِعَ مُعَاذًا يَقُولُ: وَهُمْ بِالشَّأْمِ. رواه البخاري.
هذه الطائفة مؤلفة من أنواع المؤمنين: منهم شجعان، ومنهم فقهاء، ومنهم محدثون، ومنهم زهاد، وغير ذلك، ولا يلزم كونهم من قطر واحد.
قال النووي: وفي هذا الحديث معجزة ظاهرة؛ فإن هذا الوصف ما زال بحمد الله تعالى من زمن النبي صلى الله عليه وسلم إلى الآن ولا يزال حتى يأتي أمر الله المذكور في هذا الحديث.
هذه الأسباب ربطت المسلمين جميعاً في المسجد الأقصى ربطاً عقائدياً، لا يتغير بتغير الأشخاص والأزمنة، لهذا توجه أبو عبيدة عامر ابن الجراح رضي الله عنه لفتح بيت المقدس، وفتحها عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وأذن بلال رضي الله عنه في بيت المقدس.
وللمحافظة على بيت المقدس بذل الصحابة رضي الله عنهم والمسلمون من بعدهم دماءهم وأموالهم في سبيلها، ففي غور الأردن دفن أكثر من عشرين ألف صحابي، لا تزال جثامينهم شاهدة على ذلك، ثم استمرت المعارك الدامية إلى يومنا هذا، كمعركة اليرموك وحطين وعين جالوت، وباب الواد واللطرون وجبل المكبر والكرامة.
ولهذه الأسباب شدّ كثير من علماء الإسلام الرحال إلى المسجد الأقصى ودفنوا بالقرب منه.
ولهذه الأسباب أيضاً كانت تضحيات الهاشميين الكبيرة من أجل المسجد الأقصى، فقد بذل الشريف الحسين بن علي رحمه الله نفسه وماله في سبيله، وأوصى أن يدفن في رحاب المسجد الأقصى، ولا زالت قافلة الهاشميين المباركة تسير على نهج السلف بإعمار المسجد الأقصى والعناية بالقدس الشريف، والدفاع عنهما في كل المحافل الدولية.
وأملنا بالله عز وجل عظيم أن يقيل عثرتنا ويحقق آمالنا، ويرزقنا النصر والعزة والظفر على أعدائنا، وأن يرد مقدساتنا بقيادة حفيد النبي محمد صلى الله عليه وسلم الملك عبد الله الثاني حفظه الله ورعاه، وما ذلك على الله بعزيز.
والحمد لله رب العالمين