سماحة المفتي العام: الدكتور نوح علي سلمان
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
فإن كرامة الإنسان لها معالم ثلاثة:
الأول:التكريم التكويني:
وهذا ما أشار الله إليه بقوله:(لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) التين/4، وقوله عزّ وجل:(وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ ممَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً) الإسراء/70.
والذي يقارن بين خلق الإنسان وظروف حياته، وبين خلق غيره من المخلوقات وظروف حياتهم؛ يجد الفرق الكبير، ويتجسم له التكريم، فأين من يمشي منتصباً ممن يمشي على بطنه أو على أربع، وأين من سُخِّر له ما في الأرض والسماء، ممن هو مُسخَّر لغيره، مُسخَّر لبني آدم، وأين من يأكل بيديه ممن يأكل بفمه.
وهذا تكريم يشترك فيه البَرُّ والفاجر، والمؤمن والكافر.
والتكريم الثاني: التكريم التشريعي:
فإن الله تعالى جعل في شريعته حقوقاً خاصة بالإنسان، وكرَّمه أيضاً لأنه أنزل عليه شريعة تهديه إلى الصواب، قال تعالى:(إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) الإسراء/9.
وجعل له قدرة على الاختيار في بعض الأمور، فيستطيع أن يفعل وأن لا يفعل، بينما بقية المخلوقات على الأرض تسير في حياتها بما تقتضيه الغرائز التي جعلها الله فيها.
وأن تكون لك حريةٌ تكريمٌ لا يعرف قدره إلا الأحرار.
والتكريم الثالث: تكريم في المآل:
فقد خلق الله الإنسان ليعيش إلى الأبد، لكن في نعيم دائم إن أحسن في الدنيا، وفي عذاب دائم إن أساء فيها، ولا تستغربوا، فقد قال الله تعالى:(وَاللّهُ يَدْعُو إلى دَارِ السَّلاَمِ) يونس/25، ومن دعاه ربه فَرَفَضَ الدعوةَ فلا يلومن إلا نفسه، وقد قيل في الأمثال: "لا يأبى الكرامة إلا لئيم"، وقال رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:(كُلُّ أُمَّتِي يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ أَبَى) قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَنْ يَأْبَى؟ قَالَ:(مَنْ أَطَاعَنِي دَخَلَ الْجَنَّةَ، وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ أَبَى) رواه البخاري.
واقرأوا في القرآن ماذا أعد الله في الجنة للمؤمنين، وماذا أعد للكفار والعصاة في النار، لتجدوا الكرامة العظيمة التي أعدها الله لمن قبل دعوته، والعقوبة القاسية لمن أعرض عنه، وإن من تكريمنا للإنسان أن لا نخفي عنه هذه الحقائق.
وقد جاء في تفسير قول الله تعالى:(وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا) النبأ/40: أن الله تعالى يقضي يوم القيامه بين الحيوانات، حتى يقتص للشاة الجماء من الشاة القرناء، فإذا فرغ من ذلك قال لكل الحيوانات:(كوني تراباً). فتكون تراباً، فعندئذٍ يقول من استحق النار: (يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا)، يتمنى أن لو كان حيواناً في الدنيا ليكون في ذلك اليوم تراباً.
وبعد هذه المقدمة أدخل في موضوع المقال، وهو رعاية المسنين، تكريماً لإنسانيتهم.
والمسن: هو الإنسان الذي تقدمت به السن. يقال: أسنَّ الرجل: إذا كبر، وكذلك المرأة. والتقدم في السن أمر نسبي، فكل إنسان أسن ممن هو أصغر منه، وأسن منه من زاد عليه في العمر، وكون هذا أمراً نسبياً يعني وجود التراحم والمحبة بين كل فئات المجتمع.
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:(لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَرْحَمْ صَغِيرَنَا، وَيَعْرِفْ شَرَفَ كَبِيرِنَا) رواه الترمذي ، وهذا يشمل الجميع.
لكن مَن تقدم به السن أوجب الإسلام له أمرين:
الأول:حق معنوي.
والثاني:حق مادي.
أما الحق المعنوي، فيتمثل في عدة أمور:
1.الاحترام والتقدير:قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:(إِنَّ مِنْ إِجْلَالِ اللَّهِ إِكْرَامَ ذِي الشَّيْبَةِ الْمُسْلِمِ، وَحَامِلِ الْقُرْآنِ غَيْرِ الْغَالِي فِيهِ وَالْجَافِي عَنْهُ، وَإِكْرَامَ ذِي السُّلْطَانِ الْمُقْسِطِ) رواه أبو داود.
وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يؤم القوم أكبرهم سناً إذا استووا في العلم بالكتاب والسنة، والهجرة.
وجاء قوم في موضوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأراد صغيرهم أن يتكلم قبل كبيرهم، فقال له عليه الصلاة والسلام: (كَبِّرْ كَبِّرْ) متفق عليه.
وهذا التكريم جعل الله ثوابه عاجلاً، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:(مَا أَكْرَمَ شَابٌّ شَيْخًا لِسِنِّهِ إِلَّا قَيَّضَ اللَّهُ لَهُ مَنْ يُكْرِمُهُ عِنْدَ سِنِّهِ) رواه الترمذي.
وهذه بشارة للشاب بأن يطول عمره حتى يكون شيخاً فيحترمه الآخرون.
2.الاستفادة من الخبرات: فإن الحياة مدرسة يفيد منها المرء ما لم يفده على مقاعد الدراسة، ولابد من مقاعد الدراسة. وكم في أدبنا الاسلامي من حث على الاستفادة من خبرات الشيوخ وتجاربهم في الحياة، كما فيه الحث على الإفادة من عزم الشباب وقوتهم، ولهذا يوجد في بلدنا وغيره من البلدان مجلس للشيوخ إلى جانب مجلس النواب، واذا اجتمع عزم الشباب وخبرة الشيوخ، كان الخير للمجتمع كله شريطة أن يعرف كل منهما حق الآخر، وهذا ما تحرص عليه مجتمعات كثيرة، ونحن -المسلمين- شعارنا:(رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ) الحشر/10.
إن كل ما ورد في بر الوالدين -وهو كثير جداً- يشمل كل متقدمٍ في السن، فاحترام الكبير واجب على الجميع، وليس على أبنائه فقط.
إن أولى الناس برعاية الكبير هو الكبير نفسه في أيام شبابه، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(اغتنم خمساً قبل خمس -وذكر منها-: شبابك قبل هرمك) رواه الحاكم. واغتنام الشباب بعمل ما ينفع في الآخرة، وما ينفع عند الكبر، ومنه معاملة الناس بالحسنى ليحبوه ويحسنوا إليه إذا تقدمت به السن.
وأما الحق المادي:
فهو في أمر النفقة، فإن كان للمسن مال أنفق على نفسه من ماله، وإن لم يكن له مال أنفق عليه أبناؤه كما أنفق عليهم في صغرهم، والنفقة في الشريعة الإسلامية تشمل الكفاية من الطعام، والشراب، والمسكن، واللباس، وما يلزم للعلاج، والتعليم، كل ذلك بحسب حال المنفق، قال تعالى:(لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا) الطلاق/7.
وقد ذكر الفقهاء فارقَين بين إنفاق الوالد على الولد، وإنفاق الولد على الوالد:
الأول: أن الولد الفقير إذا كان بالغاً عاقلاً صحيح البدن، قادراً على الكسب، لا تجب نفقته على الوالد وإن كان غنياً؛ لأنه لا غضاضة عليه، ولا على والده، إذا ذهب يكتسب من وجه مشروع، فإن لم يجد، فهو فقير من فقراء المسلمين، يستحق من مال المسلمين ما يستحقه الفقراء، وأما الوالد الفقير القادر على الكسب فتجب نفقته على ولده الغني، ولا يكلف الوالد بالكسب؛ لأن هذا فيه ما فيه على الولد والوالد: هذا مذهب الشافعية والحنفية.
الثاني:أن الوالد لا يجب عليه أن يزوج ولده وإن كان الوالد غنياً والولد محتاجاً إلى الزواج؛ لأن هذا ليس من جملة النفقة. ويجب على الولد الغني أن يزوج والده الفقير إذا احتاج لذلك.
ولا يخفى عليكم أن الحال على غير هذا المنوال، والآباء يبذلون لأبنائهم فرحين، أكثر مما يجب عليهم، لكني أردت أن أبين مدى اهتمام الشريعة الإسلامية بالمسنين، وحرصها على كرامتهم.
كما لا يخفى عليكم حرص الأبناء على خدمة الآباء والأمهات والأجداد والجدات، بل إنهم يطربون لذلك، وهم يرون أنفسهم يعملون بقول الله تعالى: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا) الإسراء/23، وقوله تعالى:(هَلْ جَزَاء الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ) الرحمن/60
وهنا أذكِّر بأنه لا يجب على زوجة الابن أن تخدم والد الزوج، فإن فعلت ذلك فهي من المحسنات، وقد قال الله تعالى:(مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ) التوبة/91، أي: لا تجبر على ذلك.
أما إذا كان المسن فقيرا، وليس له عائل ينفق عليه، وجب الإنفاق عليه من بيت مال المسلمين، وكلكم يعرف قصة عمر بن الخطاب رضي الله عنه يوم لقي ذِمِّياً يسأل الناس، فقال له: ما أنصفناك. وأمر له بنفقة من بيت المال، وقد سُمِّيت هذه النفقة على المسنين الفقراء بأسماء متعددة، منها: التقاعد، والضمان الاجتماعي، والمعونة الوطنية، بل إن ما يأخذه الفقير المسن من الزكوات والكفارات والنذور وغيرها من الواجبات المالية هو من باب رعاية المسنين، واذا نُظِّمت هذه الموارد والأبواب آتت أكلها على أحسن وجه، وكانت لها الآثار الطيبة في المجتمع، كما أنها تكون قربة، يتقرب المشارك فيها إلى الله عز وجل.
أما دور العجزة والمسنين فهي كالمستشفيات، إنما تكون للحالات الاستثنائية، حيث لا يجد الولد وقتاً لرعاية والديه؛ لأنه مشغول بالكسب لنفسه ولعياله، ولا يجد سعةً من المال ليأتي بمن يخدم والده ووالدته في المنزل، لكن بشرط أن لا يقطعهما، ولا يهجرهما، ولا يُؤْثُر عليهما مالاً، ولا ولداً، ولا زوجة، ولا صديقاً.
ويبقى الذين ليس لهم قريب، فهؤلاء استقرارهم في دور العجزة مع الرعاية اللائقة هو أفضل ما يمكن أن يقدم لهم في مثل هذه الأحوال.
إن التقدم في السن مع العجز حال مؤلم، استعاذ منه النبي صلى الله عليه وسلم، فقد كان من دعائه: (اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ الْكَسَلِ وَالْهَرَمِ...) متفق عليه.
وكان صلى الله عليه وسلم يقول:(اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ الْبُخْلِ وَالْكَسَلِ وَأَرْذَلِ الْعُمُرِ وَعَذَابِ الْقَبْرِ وَفِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ) متفق عليه. ولذا خفف الله عن المُسن، فأباح له أن يفطر في رمضان، ويطعم مسكيناً عن كل يوم، قال تعالى: (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ) البقرة/184، وفسر ذلك ابْنُ عَبَّاسٍ بأنه: الشَّيْخُ الْكَبِيرُ، وَالْمَرْأَةُ الْكَبِيرَةُ لَا يَسْتَطِيعَانِ أَنْ يَصُومَا فَيُطْعِمَانِ مَكَانَ كُلِّ يَوْمٍ مِسْكِينًا. رواه البخاري.
وخفف الله عنه في أمر الصلاة، فقال للمريض:(صَلِّ قَائِمًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَقَاعِدًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبٍ) رواه البخاري. وهذا يشمل العاجز لأنه كالمريض.
وقد أباح الفقهاء للكبير الذي تشق عليه الطهارة لكل صلاة أن يجمع بين الظهر والعصر، والمغرب والعشاء.
وهكذا ترون أن رعاية الإسلام للمسنين لم تقتصر على الإطعام والكسوة والإيواء والعلاج، بل شملت الناحية الروحية، والكرامة الإنسانية، وحفظ الجميل السابق، وتقدير العطاء في أيام الشباب، والإحاطة بهالة له من الاحترام والحب والتقدير، بل والتبرك والتقرب إلى الله تعالى بالخدمة والرعاية من الأبناء والأحفاد والبنات والحفيدات، مما يجعل ألسنتهم تنطق بالدعاء لهذه الذرية البارة، بما فيه خيرهم في الدنيا والآخرة، ودعاء الوالدين بالخير لا يرد بفضل الله تعالى.
وإنني أرى من خلال موقعي في المجتمع، وما يُطرح عليّ من أسئلة، أَنَّ في بيوت المسلمين من رعاية المسنين والحفاوة بهم ما يؤكد أن هذه الأمة الإسلامية ما تزال كما أراد الله لها:(خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) آل عمران/110، حتى إن المرء ليؤنبه ضميره ويؤنبه معارفه لو فكَّر في التخلي عن والديه لدور العجزة، بل إن ولده الصغير يتوعده بمثل ذلك لو أساء إلى والده.
فرعى الله هذه الأمة المتحابة المتعاونة على طاعة الله، المحافظة على عهد الله وميثاق نبيه، يحترم الصغير الكبير، ويرحم الكبير الصغير.
وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.