في ذكرى الإسراء والمعراج يشغل كثيرون أنفسهم باستجلاء نهاية المعركة بيننا وبين اليهود، من خلال إشارات الآيات التي عقَّب الله بها على حادثة الإسراء.
فقد خلَّد الحق تبارك وتعالى معجزة الإسراء بذكرها في مطلع سورة الإسراء، ثمَّ عقَّب عليها بذِكْرِ العهد الذي أخذه على بني إسرائيل، وما آل إليه الأمر من نقضٍ للعهود، وإفسادٍ في الأرض مرة بعد مرة، ومعاقبتِهم والتنكيلِ بهم في كل مرة.
والذين يُدقِّقون في الآيات التي تتحدث عن معاقبة بني إسرائيل يريدون معرفة هوية القوم الذين سُلِّطوا عليهم في المرة الأولى وفي المرة الثاني، ويحاولون تطبيق الآيات على حال بني إسرائيل وحالنا في هذه الأيام.
ومهما كان الجهد في سبيل هذا التفسير فإنهم يغفلون أمورًا لا يجوز إغفالها؛ لأنها تُبيِّن سنة الله في خلقه، تلك السنة التي لا ينال مأربها في الدنيا فضلاً عن الآخرة، إلا من رعاها وعمل بمقتضاها، وإغفال هذه السنة يجعل المتأمل في الآيات مجرد باحث متفرج، لا يعنيه من الأمر إلا التنبؤ بالأحداث التي ستكون، دون أن يتفاعل معها ويُؤثِّر فيها، بالأسلوب الذي يؤثر به الرجال في الأحداث. ومن ملامح السنة الربانية التي أشارت إليها الآيات:
أولاً: من المعلوم أن الله تبارك وتعالى قد بعث في بني إسرائيل -في الفترة القصيرة التي قضوها في فلسطين- ما لم يبعث في غيرهم من الأمم في أضعاف تلك الفترة، وفي أضعاف تلك البقعة من الأرض، ولا شك أن إرسال الرسل في أمة من الأمم نعمة عظيمة.
وسنة الله في الذين يُنعم عليهم النعم أن يزيدهم إن شكروا، وأن يعذبهم إن كفروا، قال تعالى: (لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ) إبراهيم/7. وبنو إسرائيل كفروا هذه النعمة ولم يشكروها، وقد شهد عليهم القرآن في أكثر من موطن أنهم كفروا بآيات الله وقتلوا النبيين بغير حق، وكم عذبهم الله على ذلك، وكم تكرر منهم هذا الجحود والكفر، والذي يقرأ كتبهم يرى أنه ما سلم منهم نبي قط، فمن سلم من سلاحهم، لم يسلم من ألسنتهم وافترائهم حتى موسى عليه السلام الذي به يعتزون، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا) الأحزاب/69.
وقد أعطاهم الله تعالى فرصة للتوبة والاستقامة جيلاً بعد جيل، ولكن ذلك لم يردهم عن غيهم ولم يغير طبيعتهم، فكان خلَفُهم يسير على سنة سلفهم في الكفر والطغيان، وبهذا لم يكونوا قادرين على حمل رسالة الله إلى البشر، ولم يكونوا أمناء على تبليغ هدايته للناس، وكيف يكون أمينًا عليها من يُحرِّفها، ويقتل من أتى ليبلغها عن الله؟!
لهذا كله أراد الله أن ينقل شرف حمل هذه الرسالة إلى أمة أخرى، فأسرى بنبينا إلى المسجد الأقصى الذي كان موئل أنبياء الله من بني إسرائيل؛ إيذانًا بتسلمه الراية من سلفه من الأنبياء، وطي صفحة بني إسرائيل بعد أن أُسقطوا بذنوبهم من شرف حمل الأمانة، لتقوم بها أمة جديدة يقودها صاحب الإسراء صلى الله عليه وسلم... هذا ما يُفهم من ذِكْرِ فساد بني إسرائيل بعد ذِكْرِ الإسراء؛ أنه تعليل لانتقال راية التوحيد منهم إلى أمة أخرى، (وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا) الكهف/49.
ثانيًا: من مسلَّمات العقيدة عند كل مؤمن بالله أن الأرض لله تعالى، وأن من عليها عباد الله، وقد مضت إرادة الله أن تكون العاقبة للصالحين المتقين، قال تعالى: (إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) الأعراف/128.
ومن تأمَّل تاريخ البشر يرى أنه لم يدم طويلاً إلا مُلْك القوم الصالحين، وأن مُلْك سواهم مهما تعاظم سرعان ما يتهاوى، وسرعان ما ينقضه الله من قواعده بيد أهله، أو بقوم آخرين، أو بأمر مباشر من عنده، وما أحكم من قال: "دولة الباطل ساعة ودولة الحق إلى قيام الساعة".
وإذا كانت هذه سنة الله في الأرض كلها، فإن أولى الأرضين بها الأرض المقدسة التي بارك فيها، وبارك حولها، وبارك مَن فيها، ومَن حولها. والله عز وجل كما يختار من البشر من يشاء يختار من بقاع الأرض ما يشاء.
على أساس هذا المفهوم نعرف من أولى الناس بالأرض المقدسة، ومن الذين سيكتب الله النصر لهم فيها، ويورثهم ربوعها، حتى يرث الله جلَّ جلاله الأرض ومَن عليها، أليست هي الأرض التي فتحها عمر ومعه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم حررها صلاح الدين تحت راية (لا إله إلا الله)؟!
وبموازنة سريعة بين الأمة الإسلامية وبين يهود يُعرَف من الأولى بالأرض المقدسة؛ فنحن أمة لا نفرق بين أحد من رسل الله، نؤمن بهم جميعًا، ونُعظِّمهم ونحترمهم جميعًا، ويسير العدل والرحمة في ركابنا أينما سرنا، حتى شهد لنا أعداؤنا بأن التاريخ ما عرف فاتحًا أرحم منا... ويهود يكفرون بآيات الله، ويفترون عليه الكذب، ويقتلون أنبياء الله، ويعذبون عباده، وقد شاهدنا من أفعالهم اليوم ما جعلنا نُصدِّق ما ذُكِرَ عن آبائهم من قبل، ونعرف ما استحقوا به نقمة الله التي حدثنا عنها القرآن.
هذا المنطلق الإيماني هو الأجدر بنا والأجدى لنا في معركتنا مع يهود؛ فهو خيرٌ من استنطاق الآثار، وتعداد الأجداد، وإن كان هذا أيضًا يشهد لنا؛ فإن المسجد الأقصى قد بني لعبادة الله تعالى، وسيظل الأولى به من يريده لهذه الغاية السامية، ليكون مع المسجد الحرام والمسجد النبوي أبوابًا واسعة تتنزل منها الرحمة والبركة على الأرض كلها، وتظل أمتنا جديرة بها كلها ما دامت محافظة على رسالة الله المنزلة على صاحب الإسراء والمعراج، وهي كذلك بحمد الله؛ فقد كانت وستظل إن شاء الله أمينة على الوحي، قائمة بالعدل، رحيمة بالخلق.
ثالثًا: وإذا كنا قد خالفنا الذين يفسرون الآيات الواردة في أول سورة الإسراء بما يؤكد النصر لهذه الأمة على اليهود، فإننا نوافقهم في النتيجة، ولكن لنا طريق آخر في الوصول إليها، هو طريق السنة الشريفة، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تقوم الساعة حتى يُقاتل المسلمون اليهودَ، فيقتلهم المسلمون، حتى يختبئ اليهودي من وراء الحجر والشجر، فيقول الحجر أو الشجر: يا مسلم... يا عبد الله، هذا يهودي خلفي، فتعال فاقتله. إلا الغرقد؛ فإنه من شجر اليهود) متفق عليه.
وهذا الحديث الذي ريب في صحته، ينبغي أن لا يُشغلنا الفرح ببشرى النصر فيه عن شروط النصر التي تضمنها، لقد كان الناس يتعجبون لأمور في هذا الحديث. وقد زال عجبهم من بعضها وسيزول العجب من باقيها.
كانوا يعجبون من أن المسلمين سيقاتلون اليهود كلهم، فيقولون: كيف يكون ذلك واليهود موزعون في كل أرجاء الأرض؟! ولو فطنوا إلى آخر سورة الإسراء لما عجبوا، لقد قال الله تبارك وتعالى في آخرها: (وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا) الإسراء/104.
وقد زال العجب اليوم ونحن نرى اليهود يجتمعون من كل أنحاء العالم بصورة لم تكن متوقعة، وهذا لا يعني أننا نرحب بهم، ولكن نقول لأمتنا إن الأمر جد فجدوا، وإن وعد الله قريب فاستعدوا.
وكانوا يتعجبون كيف ستقسو القلوب على يهود حتى يُطارَدوا من وراء الشجر والحجر، ورأى الناس اليوم من خلال أجهزة الإعلام ما تفعله يهود بأهل الأرض المحتلة فزال العجب؛ لأن ما سيكون هو جزاء من جنس العمل، وعقوبة من نوع الجناية؛ فالذين لم يرحموا عباد الله، لن يرحمهم عباد الله، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ يقول: (من لا يَرحم لا يُرحم) متفق عليه. وسيزول العجب من بقية ما ورد في الحديث ولكن الناس يستعجلون.
رابعًا: أما شروط النصر التي تضمنها الحديث الذي يحمل بشرى النصر فهي ما يلي:
1. إن الشجر والحجر سينادي: "يا مسلم". والمسلم -في عرف الإسلام-: الذي تقوم في حياته أركان الإسلام الخمس، والذي سلم المسلمون من لسانه ويده، والذي يحب لأخيه ما يحبه لنفسه... وهذا منهاج متكامل لا يتسع المقام لشرحه.
2. وأما "عبد الله" فهو الذي يُقدِّم طاعة الله على طاعة من سواه، ويستشعر بالعزة إذ يعرف أنه عبد الله، بينما غيره عبد للدرهم والدينار وغيرهما من حطام الدنيا... إن الحديث يُبشِّرنا قبل النصر بأن الأمة سيصلح حالها؛ حتى ينطبق على كل فرد فيها المواصفات الإسلامية لكلمة (مسلم)، ولقب (عبد الله)؛ فتفرز جيشًا بهذه المواصفات يُكتب له النصر، ويناديه الشجر والحجر! أما كيف يناديه فلا نتعجل أمر الله تعالى، وأرى مخايل هذه الصفات على وجوه جيشنا المصطفوي، المصلي القائم الحاج العابد المرابط القارئ للقرآن الحافظ لحدود الله.
3. إن الشجر والحجر سينادي: "يا مسلم". وهو لقب يشمل كل فرد من أفراد الأمة الإسلامية، إذن فسوف تكون معركة النصر معركة كل المسلمين، وليست معركة بلد واحد من بلدانهم، ولا قطر واحد من أقطارهم، ولا قوم فقط من أقوامهم، ولا جماعة فحسب من جماعاتهم... ومن هنا ندرك أننا بمقدار ما نوحد كلمتنا ونرص صفوفنا وننبذ خلافاتنا ونجمع شملنا؛ نقترب من يوم النصر الموعود، وبمقدار ما نحقق في حياتنا مواصفات (مسلم) (عبد الله) نكون جديرين بالنصر الموعود، وندرك أيضًا عظم الجناية التي يجنيها من يُشيع الفرقة في الصفوف، ومن يُبعد الأمة عن دين الله الإسلام.
إن الله تبارك وتعالى قد قطع على نفسه عهدًا لا يُخلفه فقال: (وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ) الروم/47. وإذا تحقَّق الإيمان في سلوكنا ومجتمعنا أنجز الله لنا وعده، وأرشدنا إلى سبل النصر وسهله علينا.
خامسًا: إن المؤمن الذي يجول بخاطره في هذه المعاني واثقًا بوعد الله، مطمئنًا إلى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم يجد أن الأمر قد غدا خطيرًا، ولم يعد يحتمل التهاون والتأجيل، ولا بد من مساهمة فعالة في الاستعداد لما تحمله الأيام، فالبوادر تدلُّ على ما بعدها، ولا يكلف الله نفسًا إلا وسعها، والله عز وجل يقول: (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ) الأنفال/60.
كل مشاركة في حمل السلاح إعداد للقوة.. كل كلمة تجمع الصف وترأب الصدع إعداد للقوة.. كل ما يزيد الأمة ثقة بوعد الله إعداد للقوة.. كل كلمة تدعو إلى التمسك بالإسلام إعداد للقوة.. كل حماية لثغر من ثغور الأمة إعداد للقوة.
وعلينا جميعًا ونحن نستذكر قدرة الله التي تجلَّت في الإسراء والمعراج ألا نستكثر على قدرة الله شيئًا؛ فهو إذا أراد شيئًا قال له: "كن"؛ فيكون، وليكن حديث أنفسنا دائمًا: (إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) الأعراف/128.
(*) مقال منشور في مجلة (التذكرة) التي تُصدرها مديرية الإفتاء العسكري.