يُعرف الإيمان بأنه:الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره. وينقسم الناس أمام هذه العقيدة إلى مؤمن وكافر. وليس من غرضنا شرح هذه العقيدة وذِكْر تفاصيلها؛ فذلك له موضع آخر.
ولكن الذي نود أن نبينه هنا أن الإيمان عقيدة في القلب، يُعبَّر عنها باللسان ويُصدِّقها العمل. وهذا معنى ما قاله الحسن البصري رحمه الله: "ليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي، ولكن ما وَقَرَ في القلب، وصدَّقه العمل".
ويؤيده أيضًا الأحاديث الكثيرة التي تجعل الإيمان معلَّقًا على أداء واجب من الواجبات كقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه) متفق عليه. والأحاديث التي تنفي الإيمان عن من ارتكب منكرًا من المنكرات كقوله صلى الله عليه وسلم: (ما آمن بي من بات شبعان، وجاره جائع إلى جنبه وهو يعلم) رواه الطبراني في "المعجم الكبير".
ومجموع هذه النصوص يدل بوضوح على أن الإيمان ليس كلمة تُقال فيخرج بها صاحبها من الظلمات إلى النور، وينجو بها من عذاب الله الأبدي إلى رحمته الأبدية؛ بل هو عقيدة وسلوك يُصدِّق كلٌّ منهما الآخر.
صحيحٌ أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو الناس إلى كلمة (لا إله إلا الله)، ولا يشرح لهم ما الذي تستتبعه هذه الكلمة من واجبات وأعمال وسلوك... وما ذلك إلا لأن العربي كان يفهم بمقتضى اللغة ما تعني هذه الكلمة، وما يترتب عليها من عمل وبرهان؛ ذلك أن العربي كان إذا قالها تغيَّر سلوكه تمامًا من منتهى الشر إلى منتهى الخير؛ فليس عُمَر قبل الإسلام كعمر بعد الإسلام، وليس خالد المسلم هو خالد المشرك قبل ذلك، وهكذا قل في كل من أسلم في ذلك العهد وفي العهود التي تلته.
بينما نجد اليوم الكثير من الناس يقولون هذه الكلمة العظيمة المباركة ولا يختلف سلوكهم عن سلوك مَنْ لا يقولها ولا يؤمن بها، ولا يفطنون لما تقتضيه إلا عند مراسيم الدفن لأحد أقربائهم، وقد لا يشاركون في صلاة الجنازة، وما ذلك إلا لعدم وضوح معنى هذه الكلمة في أذهانهم.
إن معنى (الإله) في لغة العرب: الذات المتصفة بكل صفات الكمال المطلق، المنزَّه عن كل صفة من صفات النقص؛ فهو الذي خلق الخلق، وهو الذي يملكهم، وهو الذي يرزقهم ويحييهم ويميتهم، وهو على شيء قدير.
وهذه الصفات لا توجد إلا في الله تعالى. قال عز وجل:(يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ) الحج/73.
والذي يتأمل الفرق بين أرقى الجمادات وأقل الحيوانات؛ يعرف أن الحياة أمر عظيم، لم يعرف الإنسان كنهها؛ فكيف يقدر على إنشائها؟! إنها أمر الله فقط؛ فهو إذا أراد شيئًا بمقتضى حكمته قال له: "كن"؛ فيكون.
ومقتضى هذا الإيمان بالله تعالى أن يطيعه الإنسان، وأن يمتثل أمره، ويسير في حياته وفقًا لإرشاداته لأنه مصدر الخير كله، والهادي إلى سواء السبيل، وليس له أن يُخالفه؛ لأنه بهذه المخالفة يُضِرُّ نفسه أولاً، ويتمرد على من ليس له أن يتمرد عليه؛ أي أنه يُناقض مقتضى الإيمان بألوهية الله عز وجل؛ إذ كيف ينسجم الإيمان بأنه (لا إله إلا الله) مع المخالفة لما أمر به الله؟! وكيف ينسجم الإيمان بأن الله حكيم، مع المخالفة لحكمته وأحكامه؟! لا سيما إذا لاحظنا أن مخالفة الله ستكون طاعة لسواه أيًّا كان ذلك (السِّوى) من نفس أو شهوة أو هوى، أو إنسان أو مخلوق كائن من كان.
فكيف يُطاع من ليس بالإله، ويُعصى الإله؟! مع أن طاعة غير الله في بعض الأحيان تكون تأليهًا له وإشراكًا له مع الله عز وجل، وهذا ينافي التوحيد، وصفوة القول أن مقتضى الإيمان بالله: الطاعة المطلقة له، وإنْ حصلت مخالفة فيجب أن تتبعها توبة.
وهنا يبرز سؤال جديد: كيف يُطيع الإنسانُ اللهَ عز وجل وهو لم يره، ولم يسمع منه، إذ وصف الله نفسه بأنه (لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ) الأنعام/103؟! والجواب على هذا السؤال في الشطر الثاني من كلمتي التوحيد:(محمد رسول الله)؛ يعني أننا إذا لم نسمع من الله تعالى؛ فقد أرسل الله إلينا من يُسمعنا كلامه، ويُبلغنا شريعته، بعد أن تلقى منه مباشرة، وبواسطة الوحي.
وهذا معنى قول الله عز وجل:(مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ) النساء/80؛ فالرسول: هو الذي يُبلِّغ عن غيره. ومحمد صلى الله عليه وسلم يُبلِّغ عن ربه عز وجل، وأوامر الله التي بلَّغنا إياها الرسول صلى الله عليه وسلم هي ما اشتمل عليه القرآن الكريم، فهو كلام الله، وما اشتملت عليه السنة النبوية الشريفة، فقد عبر بها النبي صلى الله عليه وسلم عما أوحى الله إليه، قال تعالى:(وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى) النجم/3-4.
هكذا فهم العرب الأوائل معنى كلمتي التوحيد: أنها طاعة لله، وفقًا لما بلَّغنا محمد رسول الله. وهكذا يجب أن تُفهم هذه العبارة في كل وقت وحين، وإذا اتضح هذا المعنى فهمنا معنى قول الله عز وجل: (فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) النساء/65. وقول النبي صلى الله عليه وسلم:(لا يُؤمِنُ أَحدُكُم حتّى يكونَ هَواهُ تَبَعاً لِما جِئتُ بِهِ) رواه ابن أبي عاصم في "السنة".
وهنا موضوعان خطيران لا بد من التنبيه عليهما:
الأول: إن مَن لم يفهم الإيمان على هذا الوجه، ورأى أنه مجرد التصديق بوجود الله، أو بقوة خلقت هذا الكون؛ اقتضى فهمه هذا أن يكون إبليس مؤمنًا؛ لأنه مصدق بوجود الله والملائكة والكتب والرسل واليوم الآخر! فقد حكى الله عنه أنه قال بعد أن طُرد من رحمة الله: (قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) الحجر/36؛ فهو مصدق بأن الله ربه وخالقه، وأنه سيبعث الخلق يوم القيامة، إذن كيف صار كافرًا بل رمزًا للشر والكفر؟!
والجواب على ذلك أنه رفض حكمًا واحدًا من أحكام الله، ورآه في غير موضعه؛ فقد استهجن أن يؤمر بالسجود لآدم وهو عند نفسه خير من آدم: (قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ) الأعراف/12! فاستحق بذلك ما استحق.
ومن هنا يُجمع علماء الإسلام على أن من استحلَّ حرامًا مجمَعًا على تحريمه فقد كفر، ومن حرَّم حلالاً مجمعًا على تحليله فقد كفر، ولهذا كان علماء المسلمين المجتهدون على وجل في بحثهم عن الأحكام الشرعية، حتى لا يقعوا في هذا الخطر العظيم، ومن لم يدرك هذا المعنى نراه يُشرِّع وفقًا لهواه، ولا يدري ماذا يترتب على اقتراحاته، أما الذي يَسْخَرُ من أحكام الشريعة ويستهجنها فقد أوقع نفسه في التهلكة.
الثاني: إننا أهل السنة والجماعة لا نقول بكفر من ارتكب شيئًا من المخالفات الشرعية؛ فمن ترك واجبًا وهو يعتقد أنه واجب لا يخرج من دائرة الإسلام، ومن فعل محرمًا وهو يعتقد أنه محرم لا يخرج أيضًا من دائرة الإسلام، لكنه في كلا الحالين على خطر عظيم.
وشَرْحُ هذا يطول، لكن نضرب له مثلاً: الإنسان ما دام فيه عِرْقٌ ينبض أو عين تطرف أو دماغ تصدر عنه إشارات كهربائية؛ يقال عنه إنه حي، ولو قُطعت أطرافه وبطلت حواسه وفقد وعيه، لكن هل حياته كحياة الإنسان المعافى، السميع البصير، الذي يمارس كل النشاطات التي تصدر عن الأصحاء الأقوياء؟ اللهم لا. فالأول قريب من الموت، والثاني فيه حياة كاملة منتجة فعالة.
وهكذا يقال في أصحاب المعاصي: لا نحكم بكفرهم، لكنهم ليسوا كالأتقياء العاملين بأوامر الله. وما أقرب أصحاب المعاصي من الكفر؛ لأنهم قد يستحلون الحرام في لحظة من اللحظات فيقع المحذور، وهذا معنى قول العلماء المربين: "المعاصي بريد الكفر".
بقي أن نُبين ثمرات الإيمان، وهي بشكل مجمل:أداء كل الواجبات والسنن والآداب الشرعية، والبعد عن كل المحرمات والمكروهات.
وهذا يشمل كل أحكام الإسلام، لكن ما من شك في أن الأعمال الصالحة بعضها أفضل من بعض، وبعضها كالأمهات لغيرها، والمحرمات أيضًا بعضها أخطر من بعض، ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الإيمان بضع وسبعون -أو بضع وستون- شعبة، فأفضلها قول: "لا إله إلا الله"، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان) رواه مسلم.
وقد أحسن بعض العلماء صنعًا عندما جمع أمهات الفضائل والمكارم الإسلامية في كتاب سماه:"شعب الإيمان"، وأراد بها تلك الصفات والأخلاق والأعمال التي حث الله عليها في محكم كتابه، أو أكد عليها النبي صلى الله عليه وسلم في سنته الشريفة، أو جعل الإيمان الكامل متوقفًا على فعلها، أو مهددًا بالخطر عند تركها.
ومن استعرض تلك الخصال وجد أن بعضها بتعلق بالقلب كالإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره، والشكر لله، والصبر بأنواعه المختلفة. وبعضها يتعلق بالأعمال كالصلاة والزكاة والصيام والحج والجهاد وبر الوالدين وحسن الجوار. وبعضها يتعلق بمكارم الأخلاق كالكرم والحياء والصدق والعدل والإيثار. ومنها ما هو سلوك شخصي، ومنها ما هو علاقات اجتماعية؛ ذلك أن الإسلام قد نظم علاقة الإنسان مع ربه ومع نفسه ومع بني جنسه ومع الكون من حوله. وقد عبر عن هذا الشاعر المسلم في قوله: "وراع في كل خلق وجه من خلقه".
وهو مقتبس مما روي عن المصطفى صلى الله عليه وسلم:(الخَلْقُ عِيَالُ اللَّهِ, وَأَحَبُّهُمْ إِلَى اللَّهِ أَنْفَعُهُمْ لعياله) رواه البزار والطبراني. فالإيمان الكامل تظهر آثاره في كل تصرفات المؤمن صغيرها وكبيرها، والمؤمن الكامل إنسان متميز بين الناس بأخلاقه الفاضلة وسلوكه الإيجابي النافع، ومعنويته العالية التي لا تهن؛ لأنه يستمد من النبع الذي لا ينضب من عطاء الله الموصول.
وتبعًا لذلك فالمجتمع المؤمن مجتمع متميز أيضًا في ترابطه وتراحمه وتآزره وعطائه وفي مواجهته للصعاب والتحديات، ولنتأمل هذا في قول الله عز وجل:(وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) آل عمران/139، بينما قال عن الذين ادعوا الإيمان وما هم بمؤمنين:(وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ) المنافقون/4.
فالإيمان يبعث الثقة والطمأنينة في النفس في كل الظروف، والفؤاد الخاوي من الإيمان فزع مضطرب يتوجس خيفة في كل الظروف.
نعم إن الإيمان عقيدة راسخة يُصدِّقها عمل فاضل، وصدق الله العظيم:(إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) الأنفال/2 - 4.
(*) مقال منشور في مجلة (التذكرة) التي تُصدرها مديرية الإفتاء العسكري.